بقلم: عادل درويش
استطلاعات الرأي البريطانية بمناسبة مرور 100 يوم على فوز «العمال» في الانتخابات، تشير إلى انخفاض هائل في شعبية حكومتهم (29 في المائة فقط) بفارق نقطة عن «المحافظين» (28 في المائة)، وهوَت شعبية رئيس الوزراء كير ستارمر إلى أدنى مستوى سلبي (ناقص 33 في المائة)، وأقل من خصمه زعيم «المحافظين» ريشي سوناك (ناقص 32 في المائة).
وليس هذا السبب الرئيسي في اهتمام الوسائل الإعلامية في اليومين الماضيين بالسباق الانتخابي الداخلي لاختيار زعيم جديد لـ«المحافظين» بعد خسارتهم الانتخابية الفادحة (فقدوا 175 دائرة). أحد أهم الأسباب طبيعة الديمقراطية البرلمانية نفسها؛ فوجود معارضة برلمانية قوية من أهم أسس حماية الديمقراطية وضمانها. معارضة برلمانية لها خبرة في الحكم (14 عاماً) دورها مساءلة حكومة تمكِّنها أغلبيتها الكاسحة (411 مقعداً من جملة 650) من التسرع في تمرير القوانين بلا فحص ودراسة كافية، وخاصة أن كثيراً من النواب الجدد يفتقرون للخبرة في مجالات كثيرة. فمثلاً، لا يوجد في مجلس وزراء الحكومة العمالية شخص واحد له خبرة في الاستثمارات، أو الأعمال الخاصة، وإنشاء مشاريع القطاع الخاص التي يرتكز عليها القسم الأكبر من اقتصاد البلاد. كما أن مناقشاتهم هذا الأسبوع في مجلس العموم لمشروع قانون حقوق مستأجري المساكن، وقبلها عند إلغاء قانون حماية حرية الرأي في الجامعات، أظهرت نقصاً شديداً في قدرة غالبية النواب الجدد على فهم الاقتصاد، والسوق العقارية، والإسكان، وحتى قوانين النشر والتعبير.
السبب الآخر هو المفاجأة التي وصلت إليها المرحلة النهائية لاختيار نواب «المحافظين» الباقين (121 نائباً) المرشحين النهائيين لطرح أسمائهما على أعضاء الحزب المقدرين بـ140 ألفاً للاقتراع السري بالبريد العادي والإلكتروني لاختيار أحدهما خلال الأسابيع القادمة.
الانتخاب على مراحل يستبعد في كل تصويت (ويقصر على نواب «المحافظين» في البرلمانين) المرشح الحاصل على العدد الأقل من الأصوات، وبقي يوم الأربعاء ثلاثة، كلهم وزراء سابقون. المفضَّل للرجال بـ«البدلات الرمادية» (تعبير يُقصد به حكماء الحزب من متوسطي العمر، أو عقل الحزب وليس قلبه المتحمس)، كان جيمس كليفرلي، الذي كان وزيراً للداخلية، والخارجية، والمعارف، وكان أفضل المتحدثين بين المرشحين الأربعة أمام المؤتمر العام للحزب قبل أسبوعين، واعتبروه «يداً آمنة» بين التيارات المستقطبة، حيث يكسب أصوات الوسط. لكنه حصل على أقل الأصوات يوم الأربعاء؛ إذ فضَّل ثلثا نواب «المحافظين» منح الأصوات لمنافسَيه (81 صوتاً لهما وله 37 فقط)، وكلاهما من تيار اليمين.
روبرت جينريك (40 صوتاً)، كان وزيراً للصحة والإسكان، واستقال كوزير للهجرة احتجاجاً على عدم المضي في سياسة ترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى رواندا كرادع يجعل بريطانيا غير جاذبة لمهاجري القوارب. ويَعِد جينريك بسحب البلاد من اتفاقيات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي كانت قراراتها وراء تعطيل مشروع رواندا الذي ألغته الحكومة العمالية.
أما المفضَّلة لقواعد الحزب (حسب ثلاثة استطلاعات)، فهي كيمي بادينوك، التي تقتدي بمارغريت ثاتشر، ولا تكتفي بترديد شعارات السيدة الحديدية، بل تتبنى آيديولوجيتها في وضع بريطانيا والمصالح البريطانية قبل أي اعتبار آخر. ابنة مهاجرين من نيجيريا، انتُخبت للبرلمان في 2017، واحتلت بضعة مناصب وزارية بعد خمس سنوات فقط من انتخابها (ريشي سوناك انتُخب في 2015)، وهي أكثر اتجاهاً لليمين (من جينريك) بالنسبة لقضايا الهجرة، والأعمال والتجارة، والسلوك الاجتماعي، وقضايا الهُوية، وهي أهم جبهات الحرب الثقافية المحتدمة في الدوائر الأكاديمية والإعلام. «البدلات الرمادية» تخشاها بسبب صدقها في التعبير عما في نفسها، أو «صراحتها الزائدة عن اللزوم»، بخلاف عادة الساسة.
كل من جينريك وبادينوك يطرحان برامج سياسية يمينية لسحب الأرضية الانتخابية من حزب الإصلاح، بزعامة نايجل فاراج. فقد ارتكبت حكومة بوريس جونسون المحافظة (2019-2022) خطأً سياسياً استراتيجياً فادحاً بعدم مكافأة فاراج عندما لم يخض أتباعه انتخابات منافسة في دوائر «المحافظين» في 2019. فات جونسون فرصة إقناع التاج بمنحه لقباً ومقعداً في مجلس اللوردات لتحييده بدلاً من إغضابه. الخطأ كلف «المحافظين» انتخابات هذا العام، عندما انقسمت الأصوات المحافظة التقليدية بينهم وبين «الإصلاح» في 170 دائرة.
قواعد الحزب ترجح كفة بادينوك كزعيمة قادمة لمعارضة جلالة الملك، مما يوتر أعصاب «البدلات الرمادية» بسبب صراحتها الزائدة عن اللزوم عند المواجهات البرلمانية، لكن بالنسبة للجالسين في منصة الصحافيين سيكون وجودها أكثر إثارة ومحركاً للأقلام من منافسها جينريك البارد الأعصاب ذي الكلام المنمّق الذي يحتمل أكثر من تفسير.