بقلم - عادل درويش
بادرت الحكومة البريطانية المحافظة بمحاولة تقنين النشر على الفضاء الإلكتروني بمشروع قانون يستهدف منصات التواصل الاجتماعي اسمه «السلامة في الفضاء الإلكتروني». وزيرة الثقافة ووسائل التواصل الرقمية والصحافة والرياضة، نادين دوريس، قدمته إلى مجلس العموم يوم الخميس. النص المبدئي خيب الآمال، وأثار الاعتراضات «كتهديد لحرية التعبير»، ولغموض بنوده.
القلق يتنامى من سيطرة مجموعة (غير منتخبة ولا تخضع للمحاسبة) في وادي السيليكون على منصات تشكل الرأي العام.
الوزيرة دوريس، كانت انتقدت أوليغاركية وادي السيليكون قبل تقديم مشروع القانون.
وبلغ جبروتهم منع رئيس الولايات المتحدة نفسه من «تويتر» و«فيسبوك» للتواصل مع الناخبين، وأدت سياساتهم لإغلاق صحف صغيرة بتصميم لوغاريتمات تنتقي ما ينشر بشرائهم إعلانات لا تتحملها ميزانيتهم. كما استمرت هذه الوسائل في فرض رقابة على من لا يغني موالها المفضل.
ولذا انتظر أنصار حرية التعبير، وحرية الحصول على المعلومة، والصحافيون، مشروع القانون (الذي يتضمن فرض عقوبات على مديري هذه المنصات والمسؤولين فيها، تشمل السجن ما بين شهرين وسنة، أو مخالفة تصل إلى 10 في المائة من ربحها السنوي، عند انتهاك القانون) كي يكون ذراع المواطن العادي أمام جبروت وادي السيليكون.
كانت هناك مجموعات ومصالح أخرى تنتظر مشروع القانون أمام مجلس العموم، ومعظم أهدافهم «حمائية» رقابية، سواء من جماعات نسوية (تشاركها في ذلك دعوات من رجال الدين، ومن بعض أطباء النفس) بتحديد وتضييق الدخول الإلكتروني إلى مواقع إباحية، يعدونها مسؤولة عن العنف ضد النساء. بجانب جماعات من رعاية الأطفال، وأولياء الأمور، والمعلمين، قلقين من سهولة دخول الأطفال، دون السن القانونية إلى المواقع الإباحية، ومواقع تعرض أفلام ومسلسلات عنف. وأيضاً مواقع ومنصات - خصوصاً على «إنستغرام» و«تيك توك» وغيرهما - تناقش أفكاراً تعد مضرة بصحة الصغار وسلامتهم العقلية، مثل الانتحار، أو إيذاء النفس، أو حث المراهقات على إنقاص الوزن بسرعة، مسببة أضراراً طبية.
وبالنسبة لكل مجموعة ودعوة على حدة، فقد تقدم أسباباً مقنعة للتضييق والتقنين، لكن هناك تضارباً وتناقضاً بين أهداف هذه المجموعات، وكيف يمكن الموازنة بين المصالح والأهداف المتضاربة وحرية التعبير؟
فمثلاً هناك تناقض وتضارب في الأهداف والمقالات المنشورة من الجماعات النسوية، وبين جماعات المتحولين جنسياً، حيث تحتج الجماعات النسائية على «حرية الاختيار» التي يكفلها القانون لرجال قرروا التحول إلى «هوية نسائية»، لكنهم بيولوجياً وطبيعياً لا يزالون ذكوراً، لكن القانون يبيح لهم مشاركة النساء في الوسائل العامة والحمامات؟
مسألة «الحماية» التي طالبت بها هذه المجموعات، هي في النهاية «رقابة»، سواء كان الرقيب شخصاً آدمياً أو لوغاريتمات إلكترونية، تحجب نشر وبث معلومات معينة، وهذا ما يقلق جماعات مثل «ليبرتي» (مجلس الحريات المدنية الذي تأسس في 1934 للدفاع عن الحريات المدنية للشعب البريطاني)، أو كمجلة ومجموعة «إينديكس أون سنسورشيب» (دليل الرقابة العالمي للدفاع عن حرية التعبير تأسست في 1972، وكنت محرراً لديسك «الشرق الأوسط» فيها قبل ثلاثين عاماً)، أو «فريسبيتش يونيون» (اتحاد الدفاع عن حرية التعبير).
فمشروع قانون السيدة دوريس اقتصر على جانب الحماية والرقابة، وأغفل مسؤولية منصات التواصل الاجتماعي في حماية حرية التعبير وتجنب الرقابة، ومعاملة التيارات كلها بمساواة وتجنب سياسة العزل والإقصاء للمعبرين عن آراء، أو يقدمون معلومات مخالفة للتيار السائد الذي فرضته المصالح أو الحكومة على الرأي العام.
قُدم مشروع القانون في كتاب يفوق 250 صفحة، وتم ملؤه بعبارات مثيرة للجدل ولحفيظة المدافعين عن حرية التعبير، لتركيزه أكثر على تحويل أصحاب منصات التواصل الاجتماعي ومحيطات الاتصال نحو لعب دور الرقيب أكثر من التركيز على مسؤوليتهم عن حجب المعلومات وتوجيه مسارها.
ولعل أكثر العبارات إثارة للجدل، وغموضاً للمعنى، كانت مسؤولية المنصات عن منع «ما هو قانوني لكنه ضار (lawful but harmful)».
فالتدخين والشراب، والإفراط في إضافة السكر، مثالاً لا حصراً، كلها قانونية، لكن الأطباء يعدونها ضارة؛ فمفتش المرور يرى الشراب خطراً على سلامة السير، لكن صاحب مخبز الحلويات ومصانع السجائر، والمطاعم، تراها كلها مصادر رزق للعاملين.
«فيسبوك» وغيرها مثلاً تصمم اللوغاريتمات لمراقبة ومنع ما تراه «ضاراً»، بالطبع بمنظور لحظي أناني أو غير موضوعي بوضع كلمات معينة «كمحرمات»، أو «ممنوعات». لوغاريتمات «فيسبوك» تمنع بوستات تدعو إلى العنف، أو تحرض على الكراهية (وهي تعريفات غير محددة) أو حتى صوراً لمعارك عسكرية مسلحة، أو مناظر دموية، حتى ولو كانت من كتب تاريخ قديم. الغريب أنها في الأيام الأخيرة تسمح بدعوات ومنشورات من أوكرانيين أو داعمين لأوكرانيا تحرض على القتال وإرسال السلاح وقتل «الغزاة» الروس. هنا قررت إدارة «فيسبوك» (التي جمدت حساب الرئيس دونالد ترمب لأنها رأت تغريداته «تحريضاً على انتهاك الديمقراطية») أن الدعوة للعنف ضد الروس ليست «ضارة» (رغم أن الدعوة لحمل السلاح في بلد آخر ضد قوانين معظم الديمقراطيات الغربية، وقد حذرت الحكومة البريطانية مواطنيها المتطوعين لحمل السلاح في أوكرانيا بتعرضهم للمحاكمة الجنائية عند عودتهم). فكيف يترك مشروع القانون الجديد تعريف ما هو «ضار» للمجموعة المسيطرة على هذه المنصات؟
ورغم أن اليسار البريطاني كان القوة الرئيسية وراء فرض الرقابة وسياسة «اللامنبرة» (حرمان الخصوم أو المخالفين سياسياً من منبر التعبير وإلغاء الدعوة لهم لإلقاء المحاضرات)، إلا أن أكثرهم يشاركون اليمينيين والوسطيين الانزعاج من مشروع القانون الجديد، وتناقضات نصوصه مع بعضها البعض مثلما فندتها الكاتبة اليسارية النسوية شان نوريس، قبل يومين. أما المعارضة الأكبر للقانون فتأتي من اتحاد حرية التعبير، ومؤسسيه من يمين الوسط في الصحافة البريطانية.
مشروع القانون سيمر طبعاً بمراحل اللجان والقراءة، وستتجمع لوبيات الضغط لحث النواب على تعديل فقراته، وبالطبع هناك قلق من تمكن الحكومة في النهاية من فرض القانون، مستغلة الأغلبية الكبيرة، خصوصاً أن المصالح المرتبطة بأوليغاركية وادي السيليكون كبيرة وبالغة الثراء، ولا يمكن تجاهل قدرتها على التأثير على مسار إصدار القانون. حملة مشاعل التنوير والفكر الحر كافحوا منذ القرن الثامن عشر من أجل حرية الرأي والتعبير ضد احتكارات وقوى سيطرت على المجتمعات بفضل النفوذ والثراء والسلطة، فهل يعيد التاريخ نفسه مع منصات تعبير القرن الحادي والعشرين؟