بقلم - عادل درويش
رياح التغيير تعصف بالخدمة العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية، ستحمل الاستديوهات جغرافياً وأثيرياً، وتنهي أو تدمج خدمات، بعشرين لغة موجه معظمها لأمم آسيا وأفريقيا (خاصة اللغتين الفارسية والعربية).
وسائل اللغة العربية الصحافية (خاصة التواصل الاجتماعي) تبدو كأنها فوجئت بالأمر، وعبّر معظمها عن خيبة الأمل، لتعودهم، لثمانية عقود، على خدمة أكثر مصداقية وحرية في التعبير وجرأة من وسائل التعبير في جل بلدانهم.
الأسباب متعددة، أهمها الاقتصادية بتوفير (ما يقدر بخمسة وثلاثين مليون دولار في العام)، 28.5 مليون جنيه إسترليني من الميزانية السنوية للخدمة الخارجية (340 مليون جنيه، 97 مليون جنيه منها دعم مباشر من الحكومة، كان 18 مليون جنيه فقط، بجانب 267 مليون جنيه من الرخصة الإجبارية قبل خمس سنوات). الخطة طرحتها، في مطلع العام، وزيرة الثقافة والرياضة، ووسائل التعبير السابقة، نادين دوريس، تنفيذاً لوعد المحافظين الانتخابي بالتعامل مع الرخصة الإجبارية التي تدفعها البيوت البريطانية لتمويل الـ«بي بي سي»، وإعفاء كبار السن (فوق الخامسة والسبعين) منها.
هناك أيضاً أسباب أخرى أهمها تاريخ تطور الخدمة الخارجية (خاصة العربية)، بالنسبة لمصدر الميزانية؛ والتطور في وسائل التعبير الصحافي من مجرد إدارة مؤشر الراديو، مع ظهور شبكات الأقمار الصناعية ووسائل الاستقبال المحمولة، وعبر الإنترنت، وتنوع وسائل نقل المعلومات وتنوع المنابر. أيضاً تطور الأهداف الاستراتيجية للخدمة نفسها، خاصة بظهور منابر ومصادر أخرى منافسة لا تقل مصداقية عن «بي بي سي»، وأحياناً تفوقها مهنياً. وعدم وضوح narrative (السياق العام لرسالة مجمل البرامج من أخبار وشؤون ساعة ومنوعات) لبعض الخدمات باللغات الأجنبية، خاصة العربية؛ فالأخيرة تغطي مستمعين ومتفرجين لأكثر من خمس عشرة أمة مختلفة، تتنوع مصالح واهتمامات وأولويات شعوبها، وكثيراً ما تتناقض مصالح شعوب من مستمعي الخدمة نفسها مع بعضهم.
هذه بعض الأسباب والعوامل، التي جعلتنا لم نفاجأ بهذا القرار المتوقع منذ سنوات؛ وربما مفاجأة العاملين في الأقسام الخارجية في الهيئة نفسها (خاصة اللغتين الفارسية والعربية) هي التوقيت والسرعة، فقبل حدة الأزمة المالية والتمويل التي تطلبت الإسراع بالتوفير، جاءت أزمة أوكرانيا، والحرب التي تطورت إلى حرب باردة، ساخنة كحرب بالنيابة بين المنظومة العالمية التي يمثلها حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، في مواجهة «الشرق»، ممثلاً في روسيا والصين، وحلفائهما، متطلباً تحويل الجهد والتمويل والتكنولوجيا في الهيئة، كذراع البروباغندا البريطانية التاريخية إلى خدمتي اللغتين الروسية والأوكرانية، وتركيز جهود ومحتوى البث الإذاعي على اللغات الأخرى في بلدان أصبحت في دائرة الحرب الدعائية، كلغات مجتمعات الصين وشبه القارة الهندية. ومع الميزانية المحدودة، تطلب هذا نقل الإمكانات من بعض الخدمات إلى الخدمة المختصة بالإذاعة الموجهة إلى الصراع مع الروس.
نقل الخدمات، وإنهاء بعضها، ودمج الأخرى، (البث التلفزيوني العالمي مع قناة الأربع وعشرين ساعة) يتوقع معه الاستغناء عن خدمات 382 من العاملين في «بي بي سي». التغيير - يعني نحو نصف خدمات اللغات الأجنبية الواحدة والأربعين، ستتحول إلى الخدمات الرقمية فقط (ديجيتال - أي استقبال عن طريق الإنترنت أو الأجهزة الذكية المحمولة أو راديو خاص) لأن البث التقليدي بالتكنولوجيا القديمة (تعرف بالأنالوغ) أصبح مكلفاً.
لم يكن الأمر مفاجأة لي من حواراتي مع عديد من العاملين في الخدمات الخارجية، ليس فقط اللغة العربية. أهم أسباب الاعتراض هو مقاومة كثير منهم للانتقال للعمل في مراكز جغرافية أخرى. البعض لأسباب شخصية واقتصادية تتعلق بمستوى المعيشة (خاصة الانتقال من بريطانيا إلى بلدان آسيوية وأفريقية، وتخفيض المرتبات، والتأثير على الأسرة)، أو أسباب موضوعية، كغياب حرية التعبير، وتقييد حركة حرية الصحافيين في البلدان التي تقترح خطة تخفيضات الـ«بي بي سي» الانتقال إليها. أيضاً الهاجس الأمني، فالعديد من الصحافيين الذين سينتقلون إلى هذه البلدان يحملون جنسية مزدوجة، وبالتالي سيتعرضون لضغوط في هذه البلدان، ويذكر القراء كيف احتجز النظام الإيراني عدداً من البريطانيين يحملون جنسية إيرانية علاوة على البريطانية، خاصة صحافية بريطانية إيرانية اعتقلها «الحرس الثوري» بتلفيق تهمة بالجاسوسية وترويج دعاية ضد إيران، لمجرد أنها كانت تدرب صحافي الـ«بي بي سي» على الخدمة الفارسية في لندن قبل ذهابها إلى إيران لزيارة أسرتها.
موظفو قسم اللغة العربية في «بي بي سي»، التلفزيون والإذاعة، كانوا يعانون من تعمد تجاهل، وتعمد عدم التعاون، من الكتلة الصحافية البريطانية الإنجليزية في الإذاعة الأصلية، مع صحافيي القسم العربي؛ وقد لمست بنفسي عدم التعاون، حتى في توفير أرقام الاتصال بالمسؤولين لمقابلتهم، مما يضطر أصدقائي في «بي بي سي» العربية للجوء لي لتوصيلهم بالساسة البريطانيين.
ويعود سبب الجفوة إلى عام 2011 بقرار الحكومة الائتلافية (ليبراليين ومحافظين) بزعامة ديفيد كاميرون (2010 - 2015) بنقل ميزانية تمويل الخدمة الخارجية في «بي بي سي» من وزارة الخارجية البريطانية، كما كان الحال لسبعة عقود، واقتطاع التمويل من الميزانية العامة للهيئة عن طريق رخصة التلفزيون، وتخفيض الدعم من الحكومة، خاصة مع ارتفاع تكلفة البث التلفزيوني باللغة العربية بسبب انتفاضات وثورات في 6 من بلدان المنطقة.
التغييرات، ستكون العودة إلى عام 1936، عندما أنشأ قسم المستعمرات (أُلغي وانضمت مكاتبه للخارجية) خدمة الإذاعة الفلسطينية من القدس، وكان أغلبها ثقافياً لمواجهة البث الثقافي باللغة العربية من الخدمة الإيطالية تحت الحكم الفاشي (1922 - 1943)، ثم تطورت بتأسيس مركز بث باللغة العربية في قبرص بتمويل من ميزانية وزارة الخارجية البريطانية في 1938 وكان 65 دقيقة أصبحت ساعتين في 1942. ومعظمها برامج ثقافية، وفي العام التالي تأسس مكتب البث من القاهرة، الذي لا يزال يعمل وينسق، مع البث من العاصمة الأردنية.
أذكر في صراع النظام المصري مع بريطانيا وفرنسا ودعم عدد من الأنظمة العربية للقاهرة، بعد حرب السويس 1956، كانت «بي بي سي» (بجانب مونت كارلو) مصدراً موثوقاً به للمصريين؛ اليوم لا تواجه الخارجية البريطانية تهديداً في أثير البروباغندا يتطلب خدمات باللغة العربية كالحال قبل ستة عقود، فهل سيكون هذا في حسابات من سيواجهون خيار الانتقال من مقر «بي بي سي» في لندن إلى أماكن أخرى؟