بقلم:عادل درويش
هل يقع رجل السياسة ضحية لنجاحه؟
المقصود رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون ومتاعبه المتزايدة مع الصحافة والمعارضة، ونواب حزبه. النواب، بعضهم خصوم لم يرغبوا في زعامته أصلاً، كلهم من البقائيين في الاتحاد الأوروبي. وآخرون محايدون منتفعون (ومنهم بعض المجموعة الأولى) براغماتيون يدركون أن شعبيته مكنتهم من الفوز بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات نهاية 2019.
أما حلفاء جونسون فينقسمون إلى مجموعتين: أغلبية يشاركونه المبادئ الأساسية للمحافظين، ويرون فيه نسخة جديدة شعبية كتلميذ لأهم وأشهر زعمائهم، السير ونستون تشرشل (1865 - 1974) الذي قاد الصمود في الحرب العالمية الثانية؛ والأخرى المضطرون إلى دعمه وهم الوزراء في حكومته باعتبارهم شركاء في سياسة الحكومة (عدد الوزراء يفوق ثلاثة أضعاف مجلس الوزراء بسب تركيبة الحكومة البريطانية التقليدية من وزارات تحتية).
وربما يتساءل الناظر من خارج بريطانيا، خاصة قراء صحف اللغة العربية ومصادرهم الـ«بي بي سي» بخدمتيها العربية والعالمية، ومعظمهم قراء لمواقعها باللغتين العربية والإنجليزية، أو لموقع لصحيفة «الغارديان» اليسارية، عن الحملة المكثفة ضد جونسون، وإظهاره كالشرير في المسرحيات الغنائية الكوميدية.
التلخيص في عبارة رددها معلقون «ذهاب بوريس يعني هزيمة مشروع البريكست» (خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي)؛ فالنجاح الساحق للمحافظين بزعامته في آخر انتخابات، ارتبط بتنفيذ الوعد للشعب بالبريكست، ومؤسسة صناعة الرأي العام، والشبكات التلفزيونية، ومعظم الصحف تريد عودة بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ويرون في إسقاط جونسون أملاً في إنهاء مشروع البريكست والتحايل بوسائل، قد تبدو ديمقراطية، هدفها النهائي إعادة البلاد إلى سيطرة بروكسل.
وربما يفهم الناظر من بعيد رغبة التيارات الموالية للاتحاد الأوروبي في الإجهاز على جونسون كرئيس للحكومة، ويفهم مصلحة المعارضة العمالية (رغم أن أغلبية المصوتين للعمال من مؤيدي بريكست) في التخلص من زعيم كان ورقة انتخابية رابحة للمحافظين، أملاً في بديل أقل شعبية فيكون حظهم أفضل في الانتخابات العامة بعد عامين، لكن والصعب تفهم تخلي أنصاره، من نواب حزب المحافظين، عنه؟
ويتزايد بين الفئة الأخيرة نواب دعموه في السباق على زعامة الحزب قبل ثلاثة أعوام، طالبه بعضهم علناً بالاستقالة.
ما فهمته من حديثي مع النواب المحافظين أن أسباب تغيرهم تجاه الزعيم معقدة ومتعددة، أهمها يتعلق بأسس ومبادئ سياسية واجتماعية ليبرتارية، كتقديس الحرية الفردية، والثقة بالمواطن في الاعتماد على تقديره للمسؤولية، بدلاً من فرض القيود عليه، وتخفيض الضرائب، ودعم رجل الأعمال الصغير، والتقليل من تدخل الدولة وأجهزتها البيروقراطية في حياة الفرد وشؤونه.
المفارقة أن نجاح جونسون غير المسبوق انتخابياً باستمالة ناخبي دوائر الطبقات العاملة الشمالية الذين كانوا حكراً على العمال فصوتوا لبرنامجه، جعلته ضحية السير وسطاً بين المبادئ المحافظة التقليدية وانتهاج سياسة أقرب إلى الاشتراكية، ترضي الطبقات العاملة لكنها تؤدي إلى رفع الضرائب وتقييد المبادرات الفردية، مما أغضب القاعدة التقليدية للمحافظين.
مطاردة الصوت الانتخابي في الديمقراطية البرلمانية دفع المحافظين للتساؤل عما إذا كان الزعيم لا يزال رصيداً انتخابياً في صناديق الاقتراع، خاصة مع خسارة الحزب انتخابات فرعية في دائرتين انتخابيتين كانتا تاريخياً للمحافظين. كما تراجع المحافظون خمس نقاط في استطلاعات الرأي هذا الأسبوع إلى 28 في المائة بينما تفوق عليهم حزب العمال المعارض (38 في المائة) بفارق عشر نقاط.
وهناك الأسباب الأخلاقية والمعنوية التي تفقد الشعبية؛ فقد استاء كثير من نواب المحافظين من تأكيد جونسون لهم يوم الأربعاء في قاعة «شاي النواب» المطلة على نهر التيمز في مجلس العموم (وهو لقاء يتكرر بعد المساءلة الأسبوعية) أنه «لم يرتكب خطأً» في مسألة انكشاف أمر ما اعتبره البعض «حفلة ترفيه» في حديقة رقم 10 داوننغ ستريت في صيف 2020 أثناء إغلاق الوباء.
الحديقة إدارياً تتبع مكاتب عمل، لكنها أيضاً حديقة مسكن رئيس الوزراء وأسرته، وهنا تتداخل الأخطاء الإدارية مع السياسة والقانون (خرق إجراءات الحظر الصحي والاختلاط كان مخالفة قانونية وتلقى البعض غرامات عليها وقتها) - باعتبار أن رئيس الحكومة وموظفي مكتبه قدوة تحتذيها الأمة.
وكان جونسون غلف اعتذاره للبرلمان بتبرير أنه لم يتعمد خرق الحظر وإنما كان الموظفون يتناولون المشروب بعد العمل. رئيس الوزراء ومكتبه (حتى يوم الجمعة آخر لقاء معنا كمجموعة صحافية برلمانية) يتسترون وراء درع بيروقراطي هو التحقيق الإداري الذي تقوم به المسؤولة عن متابعة لائحة السلوك الوظيفي للوزراء (وهي معروفة بصرامتها وحيادها في التحقيق والذي أدى إلى استقالة ثلاثة وزراء في السابق)، لكن مؤيديه الذين انقلبوا عليه لا يكتفون بذلك، بل يريدون منه الاستقالة لأنه فقد الثقة «كقدوة يُحتذى»، بينما يتلاعب بالألفاظ حول تعريفات «حفلة» أو «لقاء الموظفين» في الحديقة، ويراها الرأي العام «كذبة».
ما يقلق نواب المحافظين أن المعارضة، على أغلب الاحتمالات ستثير ما إذا كان جونسون ضلل البرلمان (أي إدلاء الوزير أو النائب بتصريح يعلم مقدماً احتواءه على معلومات خاطئة) بإنكاره تعمد مكتبه إقامة حفلات أثناء إغلاق الوباء، وثبوت الادعاء يعني لا مفر من الاستقالة.
ورغم تنوع الأسباب، فإن ما استخلصته من حواراتي مع مختلف تيارات نواب المحافظين، أنهم بانتظار إيجاد بديل لجونسون كزعيم للحزب؛ وبالطبع يكون له كاريزما جونسون وشعبيته أو على الأقل يضمنون الفوز في الانتخابات القادمة بعد عامين بزعامته، وربما المقياس الانتخابات الفرعية في منطقة برمنغهام في الأسابيع القادمة، والانتخابات المحلية من مايو (أيار) هذا العام في بلدان الاتحاد والعاصمة لندن.
ورغم وجود مرشحين لتحدي جونسون، كوزيرة الخارجية، إليزابيث ترس، التي تقلد الراحلة الليدي مارغريت ثاتشر في الملبس والهيئة، أو وزير المالية ريشي سوناك (ارتفعت شعبيته بالدعم المالي أثناء عزلة الوباء) - فإن المحافظين تقليدياً يوجهون الطعنات المسمومة لكل من يبدأ خطوات المسيرة نحو حلبة منافسة الزعامة، حيث بدأت «تسريبات» للصحف وأخبار معادية للشخصيتين.
في عام 2016 دخلت تيريزا ماي داوننغ ستريت بلا تصويت في الحزب، لأن منافسيها أجهزوا على بعضهم بعضاً مقدماً، وكانت من أضعف الزعامات، حيث خسر الحزب الأغلبية في الانتخابات التي خاضتها. المحافظون يعون الدرس وربما قلقون من إعادة التجربة.