بقلم - عادل درويش
انقسام سياسي في المملكة المتحدة أدى إلى جمود في مجلس العموم وأغلبية النواب تحاول عكس قرار الشعب (وبعضهم قرار الدوائر التي يمثلونها) بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
الصراع دفع الملكة اليزابيث الثانية، كرأس الدولة دستورياً، إلى التدخل بطريقة غير مباشرة، على غير العادة، بتوجيه النصيحة بتجنب الانقسام وأخذ المصالح في الاعتبار واحترام حق الآخر في الاختلاف والتسامح.
الملكة دائماً متحفظة في إعلان رأيها، وتبادل المشورة يكون وراء أبواب مغلقة في دعوتها رئيس الحكومة (أو رئيستها) على الشاي بعد ظهر الثلاثاء (مجلس الوزراء يجتمع صباح الثلاثاء) بلا وجود أي شخص آخر.
وبالطبع لا يعرف أحد بماذا تفكر الملكة، لكن تقدير الصحافيين يعتمد على مراجعتنا سوابق على مدى جلوسها على العرش منذ 1953 وخبرتها مع 12 رئيس وزراء لعشرين حكومة ما بين محافظين وعمال وائتلاف؛ ومرور البلاد بأزمات دولية في عهدها كحرب السويس، وما تبعه من سوء علاقات مع أميركا، وأزمة صواريخ كوبا، والحرب الباردة، والحرب مع الأرجنتين لتحرير جزر الفوكلاند ودخول بريطانيا السوق المشتركة، وآخرها الأزمة مع الاتحاد الأوروبي.
هل الملكة ومستشاروها يرون ما يتجاهله المفاوض البريطاني والساسة (وربما يتعمدون تغافله أو التظاهر بتغافله)؟
والمقصود الإدراك بأن المفوضية الأوروبية والمحور الفرنسي الألماني المحرك للمشروع الأوروبي، لم ولن يكون في نيته أبداً التوصل إلى اتفاق عادل مع المملكة المتحدة، كأي اتفاق تجاري طبيعي بين طرفين منذ أن بدأت التجمعات والسلاسل البشرية في التجارة وتبادل البضائع والمنتجات. المؤسسة الملكية، بخبرتها الطويلة، خاصة أنها أيضاً تشرف على الكومنولث والملكة رأس الدولة لعدد من بلدان المنظومة، رأت أن طريقة التفكير التي تتعامل بها بريطانيا، التي بنت امبراطورية بالتجارة، مع الأطراف الأخرى في التفاوض على صفقات واتفاقيات ومعاهدات، تختلف عن الطريقة التي يفكر بها المفاوض الأوروبي.
والسؤال هو لماذا لا يدرك الساسة البريطانيون أن محاولة التوفيق بين طريقتي التفكير المختلفتين أثناء التفاوض للتوصل إلى اتفاق، كمن يحاول تثبيت درج مربع الشكل في فتحة دائرية في قطعة أثاث؟
تسرب للصحافة في الأسبوع الماضي تفاصيل ما أخبر به ميشيل بارنيه، المفاوض الأوروبي، مساعديه قبل عامين «إذا توصلت إلى اتفاق خروج تجعل بنوده البريطانيين يفضلون البقاء في الاتحاد الأوروبي على مغادرته، أكون قد نجحت في مهمتي». أي أن الهدف النهائي لمفاوض الاتحاد الأوروبي كان يختلف تماماً عن هدف المفاوض البريطاني الذي يفكر بعقلية التاجر الاقتصادية..
التحقت المملكة المتحدة بالسوق الأوروبية عام 1973 (مع الدنمارك) بغرض المشاركة في سوق تجارية للتصدير والاستيراد وقت كانت البلاد مصدرة للفحم ومنتجات الصناعات الثقيلة لا مستوردة لها كالحال اليوم.
وعارض الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول (1890 - 1970) قبول بريطانيا في السوق المكون من ستة من أغني بلدان العالم اعلاها في مستوى المعيشة: المانيا الغربية، إيطاليا، بلجيكا، فرنسا، هولندا ولوكسمبورغ.
ولم تدخل بريطانيا السوق إلا بعد وفاة ديغول... سوقاُ مشتركة للأغنياء والأفراد ينتقلون بين بلدان متقاربة في مستوى المعيشة وبريطانيا لم تكن الأعلي بين الثمانية عندئذ.
باختصار لم يفكر أحد في مشاكل كانخفاض الأجور والضغوط على الإسكان والخدمات والمرافق بسبب الهجرة التي صاحبت التوسع لسبعة وعشرين بلداً المستوى المعيشي لواحد وعشرين منها دون مستواه في بريطانيا، وبعضها دون مستوى بلدان من العالم الثالث.
وباستثناء حفنة لا تعد على أصابع اليد الواحدة ليس هناك بين جيل الساسة الحاليين في وستمنستر من يذكر ما وراء اعتراض الرئيس ديغول على التحاق المملكة المتحدة بالسوق المشتركة، بحجة أنها ستكون حصان طروادة الأميركي: السياسة لا الاقتصاد.
الأسباب الحقيقية، التي يخفيها الزعماء المتحمسون للفيدرالية الأوروبية عن الناخب، أن المشروع الذي يراه البريطانيون سوقاً اقتصادية هو مشروع آيديولوجي سياسي.
وإذا كانت الطبقات العاملة البريطانية ترى المشكلة في الهجرة المؤدية لخفض الأجور وتناقص الخدمات وأزمة الإسكان كسبب مباشر ويراها الجيل الأكبر سناً في فقدان الهوية الثقافية، فإن المشكلة التي يراها القانونيون والمثقفون هو فقدان الديمقراطية والسيادة الوطنية في مشروع فيدرالي يحذرون من أنه سينتهي إلى ما يشبه الاتحاد السوفياتي.
فالاتحاد هو حلم رجل الدولة الألماني أتو فون بسمارك (1815 - 1898) بأوروبا الفيدرالية (تحت حكم المانيا طبعا) وهو ما حاول الألمان تحقيقه بالحروبّ، لكن الاقتصاد اليوم أكثر وأمضى تاثيراً من الحروب.
ما صوت عليه أغلبية البريطانيين في الاستفتاء (التحكم في حدود البلاد وحرية التعاقد مع طرف ثالث كبلد مستقل سياسياً واقتصادياً عن فيدرالية الاتحاد الأوروبي) لا يقبل به أصحاب المشروع الايديولوجي لاوروبا الموحدة. فاستراتيجيتهم، مثل التجربة السوفياتية، هي استبدال الهوية الوطنية للدولة القومية المعروفة الحدود، بالهوية الاوروبية.
تغيير التركيبة الديموغرافية للمناطق الجغرافية (الدولة القومية حاليا) هي الاساس في استراتيجية تغيير الهوية االوطنية الى هوية اوروبية.
المدارس الالمانية تعلم الاطفال انهم «اوربيون» لا المانا. الهدف المعلن هو عدم تكرار كارثة مأساة الحرب الثانية وشرور النازية، وهو وجيه من الناحية التاريخية للالماني لكن يصعب علي البريطاني استيعابه.
وبعكس التطهير العرقي القسري فان ايديولوجية الفيدرالية الاوروبية تعتمد على الجذب العرقي ببريق الدخل ومستوى المعيشة ودولة الرفاهية. وهو يتطلب استمرار تنقل العنصر البشري عبر الحدود المفتوحة ويتعدل التوازن الديموغرافي لصالح تحول الولاء الانتخابي للدولة الفيدرالية لا القومية.
السماح اذن لبلد يخرج من عقد الاتحاد المتجه نحو فيدرالية موحدة بان يستقل بقوانينه عما ترسمه المفوضية الاوروبية - وضروريا ان تكون فوق المحاسبة ولا تتبدل بانتخابات ديمقراطية لضمان استمرارية سياستها - سيفسد الاستراتيجية التي تعتمد اعادة هيكلة التركيبة الديموغرافية.
هذا الى جانب ان السماح لبريطانيا بتنفيذ نتيجة التصويت الديمقراطية لاغلبية ناخبيها في استفتاء 2016 سيشكل سابقة لبلدان اخرى تحذو حذوها وتستقل بقوانينها عن المفوضية، وتحدد سياسة الهجرة بلا حدود مفتوحة، وتكمل الاستقلال الاقتصادي بتجارة ثنائية مع اسواق ضخمة كاميركا والصين واليابان بلا تدخل من بروكسل.
لهذه الاسباب لن يمنح زعماء الاتحاد الاوروبي، الذين يرونه مشروعا سياسيا لتحقيق هدف ايديولوجي قبل ان يكون سوقا اقتصاديا، بريطانيا اي اتفاقية او حتى فرصة لما يرونه اعادة عقارب الساعة الى الوراء بالعودة لفكرة السوق المشتركة. واذا لم يعلن الساسة البريطانيون استيعابهم لهذه المفاهيم ويصارحوا الرأي العام بها، فلن يمكن للبلاد ان تصل الى اتفاق يحقق المصلحة الوطنيىة في سياسة التعامل مع اوروبا.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع