بقلم:عادل درويش
ثلاثة تطورات في بريطانيا، قد تبدو منفصلة، لكنها ترتبط اجتماعياً بخط سياسي أساسه مفهوم المواطنة في مجتمع ديمقراطي دعامته حكم القانون واستقلالية القضاء، وقدرة الفرد على التفكير مستقلاً عن فكر القطيع أو الجماعة (Groupthink).
المحلفون في محكمة بريستول (190 كيلومتراً غرب العاصمة لندن)، حكموا ببراءة أربعة من تهم تخريب ممتلكات عامة، بعد أن أسقطوا تمثالاً بالقوة في ميناء البلدة، مما كلف مبالغ باهظة، لإنقاذ التمثال وترميمه يتحملها سكان المدينة في شكل ضرائب العقار والخدمات.
وشهد الأسبوع حملة جمع توقيعات، يقودها اليسار البريطاني والحركات الراديكالية، تطالب الملكة إليزابيث بالتراجع عن منحها رئيس الوزراء الأسبق، توني بلير (1997 - 2007) «فارس الشهامة» (الغارتر)، ويعود تاريخه إلى 1348. اليسار يشجب بلير، كرئيس وزراء، لتجاهله مطالب المتظاهرين بعدم المشاركة في حرب العراق في 2003.
والحدث الثالث، مطالبة نواب البرلمان بمعاونة «فقراء التدفئة المنزلية» بسبب زيادة أسعار الغاز والزيوت التي تستورد بريطانيا معظمها مما أدى لارتفاع أثمان فواتير الطاقة المنزلية، والصناعة، من كهرباء وغاز وزيوت في 2021، ومن المتوقع مضاعفاتها في ثلاثة أشهر عند انتهاء مهلة التحديد الإجباري لزيادة أثمان الفواتير. فقراء التدفئة، هم المتقاعدون ومحدودو الدخل. معونة تدفئة الشتاء، مثلاً، لأصحاب المعاشات حوالي 200 جنيه إسترليني تدفع مرة واحدة في الخريف، بينما متوسط فاتورة الطاقة تتجاوز ألفي جنيه سنوياً، يتوقع أن تتجاوز 3300 جنيه.
ما يربط الأحداث، فقدان الفرد لدوره ككيان مستقل، ورد الفعل في خضوع المسؤولين لضغوط رأي عام يقوّض دور القانون كحارس للديمقراطية.
الملاحظ أن الشباب الذين برأهم المحلفون في محاكمة بريستول ينتمون إلى حركات يسارية (كلها احتجاجية، وليس بينها نشاط تطوعي لخدمة المجتمع، أو تحويل المسيرات إلى غرض مزدوج كمساعدة المحتاجين، وتنظيف البيئة مثلاً كجمع البلاستيك من الأنهار أو زرع الشجيرات).
قضية بريستول بدأت باشتراكهم في مظاهرة تحت شعار «حياة السود تهم»، وهي حركة بدأت في أميركا، تحولت إلى أعمال تخريب وشغب قبل عامين، وبمشاركة حركات يسارية وفوضوية وبيئية، هي نفسها التي تقود اليوم حملة مطالبة الملكة بالتراجع عن قرارها، وسحب المنصب الشرفي من بلير. كما أن كل هذه الحركات بلا استثناء تشترك دائماً في احتجاجات البيئة (بلا مساهمة إيجابية). هذه الحركات، دفعت الحكومات المتعاقبة (العمال الأخيرة 1997 – 2010، وتحالف الديمقراطيين الأحرار والمحافظين 2010 – 2016، والمحافظين منذ 1016) إلى تعديل سياسة توفير الطاقة وتنظيم الصناعة، فأدت إلى ارتفاع أسعار الوقود بسبب ضريبة البيئة ونقص الإنتاج المحلي، في قول نواب الحزب الحاكم في خطاب مفتوح إلى رئيس الوزراء، بوريس جونسون، يطالب بتعديل فوري للسياسة.
تناولنا الأحداث الثلاثة المترابطة من منظور القانون؛ فبلا قانون يتساوى أمامه الحاكم والمحكوم، والوزير والغفير، والموطن العادي وأفراد مؤسسات الأمن التي تطبقه، لا تقوم للديمقراطية قائمة وتصبح بلا معنى إذا تجاهل الأفراد والأدوات المفصلية الأساسية، القانون الذي يفترض أن تحميه بكل قوة.
القانون، الذي اعترف متهمو بريستول بانتهاكه، واضح بشأن تهديد الشغب والفوضى للأفراد والمجتمع، وإتلاف الممتلكات العامة، ووضوح الأدلة الجنائية، لكن المحلفين تجاهلوا توجيهات القاضي، وهو أكثر علماً منهم بالقانون، وبرأوا ساحة المتهمين بالتخريب. (لا أستطيع وصفهم «بمخربين» لأن ذلك يضعني تحت طائلة القانون إلا إذا تغير الحكم حال انتقال القضية إلى الاستئناف).
نظام المحلفين قديم في أوروبا، وانتقل إلى الدنيا الجديدة في البلدان الديمقراطية. ويعود في إنجلترا إلى القرن الحادي عشر. المحلفون، ما بين ثمانية واثني عشر حسب نوع المحكمة، وفي بريطانيا أربعة أنواع، يُنتقون عشوائياً من كشوف الناخبين كممثلين للمجتمع. رغم أن النظام من أفضل الأنظمة القضائية في العالم، إلا أن تبرئة ساحة مَن خرق القانون عمداً أمر خطير، يشكل سابقة للفوضى؛ فمن لا تعجبه ممتلكات عامة قد يخربها بحجة قد يقبلها الرأي العام السائد أنياً. التمثال المخرب لإدوارد كولسون (1636 - 1721) كان عضو برلمان محافظاً، وتاجراً، وصاحب أعمال خيرية، بنى مدارس ومستشفيات في بريستول - والمبرر الذي أقنع به محامو المتهمين، المحلفين، أن كولسون (مدان بأثر رجعي)، أي استفاد من العبيد قبل تحريرهم بعد موته بقانون تحريم العبودية في 1833، وخسرت بريطانيا الأرواح في معارك دموية لتحريرهم.
المحلفون، لم يتصرفوا كأفراد، كل منهم له تقديره وموازناته القانونية، بل تحركوا ككتلة مع التيار السائد الذي يريد إدانة الشخصيات التاريخية بأثر رجعي. فهل يرضون مثلاً، بدفع ضريبة جديدة فرضت هذا العام على عقاراتهم، بأثر رجعي لعشر سنوات مضت؟
والأمر نفسه يتعلق بموجة الاحتجاج على منح بلير اللقب الشرفي في مسألتين تشيران إلى افتقار عقلية القطيع لمنطق الفكر النقدي - وهو بالضرورة موهبة للعقل الفردي وليس للتفكير الجماعي؛ والأخرى الجهل بالقانون. فاللقب تمنحه الدولة (ممثلة في رأسها وهو الملكة)، ليس للشخص نفسه بل للسياسي شاغل منصب رئيس الوزراء - وهو منصب صعب في بيت صغير في 10 دواننغ ستريت، يفتقر للإمكانات الإدارية التي يتمتع بها رئيس جمهورية متوسطة الحجم في أفريقيا. رئيس الحكومة تتجاذبه قوى متعاكسة، كما يحاسب يومياً من مؤسسات منفصلة مستقلة، كالبرلمان والسلطة الرابعة والرأي العام. ولا يتخذ القرارات السياسية استجابة لمظاهرات بل في البرلمان، الذي صوّت لخوض الحرب. ما لا يراه المحتجون أن رفضهم مكافأة رئيس حكومة سابق إهانة واحتقار لأغلبية الشعب الذي انتخب بلير ثلاث مرات، آخرها في 2005 بعد حرب العراق بعامين. والمحتجون يركبون الموجة الشعبية نفسها التي أقنعت محلفي بريستول، بذهنية القطيع، بتبرئة المتهمين.
الذهنية نفسها التي خلقت حالة ذهن جماعي في الرأي العام، كما أشار نواب البرلمان يوم الأربعاء وخطابهم المفتوح، دفعت الحكومة إلى إهمال سياسة أمن الطاقة بإلغاء التنقيب عن الغاز الصخري، وآبار بترول وغاز جديدة، وإهمال زيادة السعة التخزينية (مقارنة بأميركا واحتياطيها الاستراتيجي من الوقود) استجابة لضغوط هذا التيار.
الخطورة أن ذوبان القدرة الفردية في الاستقلال عن عقلية السرب أو القطيع، التي تؤدي إلى الضرب عرض الحائط بقوانين دعمت الديمقراطية لقرون يعني تراجعها لا تطويرها.