بقلم: عادل درويش
لا جديد تحت الشمس، المختصر المقابل لـ«من لا يتعلم من التاريخ سيكرر أخطاءه» (بأوجه متعددة) لرجل الدولة الآيرلندي إدموند بيرك (1729 - 1797)، والفيلسوف الإسباني جورج سانتايانا (1863 - 1952)، واقتبسها ونستون تشرشل (1874 - 1965). تذكرت الحكمة مع تفاقم أزمات كالوقود وتوصيل السلع في بريطانيا التي، كباقي الديمقراطيات الغربية، فقد مواطنها الثقة بالمؤسسة الحاكمة.
تجمعت غيوم أزمات في سماء بريطانيا، وبدأت أمطارها تتساقط على المجتمع. البداية كانت مشكلة الوقود (راجع «أزمة الطاقة والهوس الآيديولوجي» العدد 15642). الأزمة خارج سيطرة حكومة المحافظين لأنها عالمية بسبب زيادة أسعار الغاز والبترول المستورد، ونقص عدد سائقي الشاحنات وصهاريج نقل الوقود، بسبب إغلاق وباء كوفيد للنشاط المباشر واتجاه معظم السائقين إلى وظائف أخرى. مسؤولية الحكومة المباشرة هي مشاركتها في هستيريا التغير المناخي والمبالغة في مسؤولية النشاط الإنساني عنه (الذي يقل عن سبعة في المائة فقط من التسخين الحراري)، وتعمد تقليص التنقيب عن الغاز، سواء الطبيعي أو الصخري في الأراضي، والمياه البريطانية، وفي بناء المحطات النووية، مع دعم مشاريع «الطاقة الخضراء» برسوم إضافية على فواتير الطاقة، وتهديد كثير من المصانع بالإفلاس.
المعارضة العمالية، ومجمل آلة صناعة الرأي العام في مؤسسات الإذاعة والتلفزيون، لم تذكر عامل الهوس الآيديولوجي للتغير المناخي، وركزت على «بريكست»، متهمة حكومة بوريس جونسون بأن وضع إرادة الشعب محل التنفيذ «طفشت» عشرات الآلاف من السائقين الأوروبيين. وعندما استجابت الحكومة لضغوط هذا التيار (وأصحاب شركات الشحن والنقل) بإصدار أكثر من أربعة آلاف فرصة بتصاريح عمل وإقامة وحوافز مغرية، لم يتقدم سوى 28 سائقاً من أوروبا، لأن هناك نقصاً في السائقين بأوروبا نفسها.
وتكرر الأمر مع أزمة ازدحام أكبر موانئ بريطانيا للاستيراد والتصدير، ميناء فيليكستو جنوب شرقي إنجلترا (مملوك لشركة موانئ دبي) بسفن النقل، وبطئ التفريع. السبب الرئيسي تأخر الشحن من الشرق الأقصى، لكن ترتفع النغمة نفسها بلوم الخروجيين (البريكستيين) رغم أن الموانئ الأوروبية أيضاً تعاني من هذا الازدحام، لأن تعطيل الشحن لأكثر من عام (بسبب إغلاق كوفيد) في موانئ الشرق الأقصى أدى إلى وصول سفن شحن عام بأكمله في شهرين فقط.
عودة بالذاكرة 48 عاماً، لأحداث غطيتها كصحافي في خريف 1973 وأزمة في الوقود استغلت هنا في بريطانيا لأغراض سياسية. كانت حكومة المحافظين انتخبت في 1970 وقتها بزعامة السير إدوارد هيث (1916 - 2005) بعد حكومتين للعمال (1964 - 1970) بزعامة السير هارولد ويلسون (1961 - 1995). كان تأثير شبكات التلفزيون وقتها لا يذكر مقارنة بما هو عليه اليوم (خدمتا تلفزيون فقط: محطتان لبي بي سي، والتلفزيون المستقل آي تي في) ولا نقل مباشراً سواء بالإذاعة أو التلفزيون من مجلسي البرلمان، ولم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعي أو تليفونات متنقلة سواء في السيارات أو المحمولة يدوياً. كانت الصحافة المطبوعة هي الوسيلة الأولى (وتقود الإذاعة والتلفزيون) لتحليل ونقل ما يدور في دهاليز السياسة والاتحادات العمالية والبرلمان، بل والعالم وراء البحار، إلى الرأي العام. وكان متوسط عمر الصحافيين في الخمسين من ذوي الخبرة تعلموا المهنة على أرض الواقع، يستثمرون الوقت في استقصاء الحقائق قبل ظهور «غوغل» ومغالطات «ويكيبيديا» وبقية أدوات الكسل لجيل صحافيين بمتوسط عمر 27 عاماً.
حرب الشرق الأوسط في خريف 1973 تطورت إلى أزمة في المحروقات لأسباب كالمقاطعة التي فرضتها بلدان مصدرة للبترول تضامناً مع مصر، ورفع المنتجين الآخرين للأسعار؛ وتحويل ناقلات البترول الخام من مقصدها الأوروبي نحو اليابان وأميركا. كان إنتاج الفحم وقتها 132 مليون طن سنوياً من 261 منجماً معظمها قطاع عام (بجانب مليوني طن مستوردة)، وإنتاج البترول دون 400 ألف برميل يومياً، ولم يكتشف غاز بحر الشمال بعد. كان الفحم ضرورياً للصناعة، (خصوصاً الحديد والصلب) بجانب توليد الكهرباء، وتدفئة كثير من المنازل. استغل اتحاد عمال المناجم، الذي سيطر عليه الشيوعيون، أزمة نقص البترول المستورد وأضربوا عن العمل وحصلوا على 33 في المائة زيادة في الأجور - الأزمة استمرت نحو عام؛ ورغم أن الصحافة كانت أكثر مسؤولية عن مثيلتها اليوم، وذكرت الحقائق حول الدور السياسي للنقابات العمالية، فقد وجه الناخب اللوم لحكومة هيث التي اضطرت إلى تخفيض أسبوع العمل من خمسة إلى ثلاثة أيام بسبب الإضرابات ونقص المحروقات، ما أدى إلى ارتفاع البطالة، وتناسي معظم الناخبين السبب الأصلي.
النتيجة كانت خسارة المحافظين الانتخابات في فبراير (شباط) 1974 (297 مقعداً برلمانياً) للعمال الذين فازوا بـ301 مقعد، (أقل من الأغلبية بـ17 مقعداً). كوّن العمال حكومة أقلية بالتعاون مع الأحرار (14 مقعداً) مع أحزاب ونواب مستقلين - وكانت النتيجة انتخابات أخرى في أكتوبر (تشرين الأول) 1974 فاز فيها العمال بأغلبية مقعد واحد في البرلمان (319) واتفاق مع الأحرار.
استمرت حكومة العمال حتى نهاية سبعينات القرن الماضي.
ولأن الأسواق والمال والأعمال والاستثمارات تفضل الاستقرار، فإن وجود حكومة بأغلبية مقعد برلماني واحد لا يطمئن الأسواق، خصوصاً أنها حكومة اشتراكية وكانت تدعم مشاريع القطاع العام الفاشلة اقتصادياً. النتيجة زيادة البطالة وارتفاع معدلات التضخم.
وعادت الأزمة في خريف 1978 بارتفاع أسعار المحروقات، وشتاء 1979، الذي عرف بشتاء الاضطرابات (في قول الملك ريتشارد الثالث عن حكمه شعب يكره في مسرحية شكسبير بالعنوان نفسه) حيث شهد إضرابات الاتحادات والنقابات العمالية، وتراكم أكوام القمامات بإضراب عمال النظافة، وتراجيديات أهالي الأموات بإضراب عمال المدافن، وشل حال البلاد. مع نهاية السبعينات؛ كان الناخبون البريطانيون أكثر وعياً من إدراكهم في 1973 - 74 وصوتوا للمحافظين بزعامة الليدي ثاتشر في مايو (أيار) 1979 بـ339 مقعداً، (أغلبية مريحة بـ22 مقعداً).
رغم تشابه أحداث وظروف سبعينات القرن الماضي بالحاضر، فإن الغريب في الأمر غموض الأهداف التي يمكن أن تحققها اليوم حملة الصحافة والشبكات الإذاعية اليسارية (الموالية للبقاء في الاتحاد الأوروبي) والإضرابات العمالية؛ فلن تؤدي إلى تغيير حكومة أغلبيتها 40 مقعداً، مقارنة بحكومة عمالية فقدت الثقة وأرغمت على خوض الانتخابات بفارق صوت واحد في 1979.