بقلم: عادل درويش
أضاف الاثنين الماضي صفحة إلى كتاب تاريخ بريطانيا العريق، بملاحظات حضارية ودستورية، وروحانية وشعبية.
وستمنستر، أم البرلمانات، شهد جلسة تاريخية لتأبين النائب المحافظ السير ديفيد آميس (1952 – 2021). آميس لقي مصرعه على يد شاب (لأب مهاجر كان مستشاراً لحكومة الصومال) متهم بالقتل والتآمر الإجرامي والتهديد لأغراض إرهابية، الجمعة 15 أكتوبر (تشرين الأول) أثناء لقائه الأسبوعي بناخبي دائرته، سوث - أند، على بعد خمسين ميلاً شرق لندن، والتي يمثلها منذ 1997 (أعيد انتخابه ست مرات).
آميس، كبقية 650 نائباً يمثلون أمم المملكة المتحدة بالانتخاب المباشر، يخصص يومي الجمعة والسبت لاستقبال الناخبين في «عيادته»، فالنائب يعالج الحالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، والشخصية بتفاصيل يدرسها مساعدوه بدقة «الدكتوراه» لخدمة من يمثلهم.
عرفت آميس، شخصياً، لعقدين، دمث الخلق، متدين، كاثوليكي محافظ، تعوّد حضور كل مناسبات الدائرة الثقافية والفنية والرياضية، والدينية لتهنئة متبعيها (في بريطانيا مئات من الأديان والعقائد). كان من أكثر البرلمانيين تمثيلا للديمقراطية، وليس كنواب يحركهم الطموح السياسي لزعامة الحزب (طمعاً في رئاسة الحكومة يوماً) أو منصب وزاري، أو رئاسة لجنة برلمانية، أو دخول مجلس اللوردات، أو مستشار لشركة عالمية، أو كالات دولية بعد ترك البرلمان.
كان طموح آميس الأول والأخير، خدمة أبناء الدائرة.
مداخلاته في اللجان أو في القاعة الرئيسية كانت عن الدائرة ومصالح ناخبيها، فما هي دوافع شاب مسلم لاغتيال نائب لم ينخرط في السياسة الدولية بشكل ملحوظ للرأي العام قومياً أو عالمياً، (تبرير الإسلاميين دائماً السياسة الخارجية لبريطانيا)؟
لا شك أن تصاعد العنف من اللفظ إلى الفعل في الاعتداء والقتل، تشحذه كراهية تجاه «الآخر»؛ الجهل «بالآخر»، بثقافته، وعاداته، وملامحه، وبالتالي تسهل شيطنته وتجريده من إنسانيته، والإنسان منذ بدائية الكهوف وقبل تعلم الكلام يخاف المجهول.
للاستدلال على الجهل بالآخر، أعود إلى يوم الاثنين. بدأت كلمات التأبين برئيس الوزراء بوريس جونسون، فزعيم المعارضة العمالية، فأبو المجلس (أقدم نائب) وهكذا حسب تقاليد معروفة. امتزجت كلمات المديح، والصلوات والدعاء، بعبارات الإطراء، وبقفشات ونكات على مداخلات المرحوم آميس، وفكاهات تبادلها، ومواقف جعلت النواب يضجون بالضحك، وهو ما يبدو غريبا على مجتمعات جنوب المتوسط والثقافات الشرقية، التي تكون المآتم وجلسات التأبين فيها مرثيات ودموع. كذلك كان الحال في كنيسة القديسة مارغريت – الملحقة (بكاتدرائية) وستمنستر أبي - التي توجه إليها النواب لصلاة القداس على روح آميس، والتي ترأسها كبير أساقفة كانتربي، رئيس الكنيسة الإنجليكية، رغم أن الراحل كاثوليكي وكان بين الكنيستين تاريخ من الحروب. رئيس الحكومة، جونسون أبلغ البرلمان، موافقة الملكة على ما طالب به آميس لسنوات، منح سوث - أند صفة المدينة City وكانت بلدة Town. الصفة لا تتعلق بحجم البلد، لكن وجود كاتدرائية يجعلها مدينة city، خلاف ذلك تحتاج إلى مرسوم ملكي في بريطانيا.
دونت ملاحظات بشأن صعوبة فهم كثير من الأجانب عن بريطانيا لخصوصية ثقافتها صباح اليوم نفسه، عندما طلبت مني خدمة اللغة العربية (وهي حديثة نسبيا) لشبكة صحافة تلفزيونية عالمية، المشاركة في جدل (معد البرنامج قال بالإنجليزية debate) لا تبني إحدى وجهتي نظر متعارضتين حول مقتل النائب آميس. فتساءلت (بخبث متعمد) ما إذا الجدل أنه بالفعل قتل أم شبه لنا وما زال حيا يرزق؟ تخابثت لعلمي بمدى عبثية الموضة التي بدأتها بعض الفضائيات العربية.
الـdebate التلفزيوني ليس له فائدة معرفية المعلومات تفيد المتفرج إلا في حالات محددة تحكمها ظروفها الخاصة، أهمها إلمام المتجادلين والمشاهدين بتفاصيل الموضوع، وقدرتهم على فهم المفردات والتعبيرات المستخدمة، أي لها معنى في حياتهم، وما الهدف من الجدل؟ استطلاع رأي في بداية البرنامج، وآخر في نهايته لقياس تأثير الجدل على تغيير تعاطف المشاهدين، أو أنها مثلا أثناء حملة انتخابية قد يغير الجدل من نسبة التأييد لحزب على حساب الآخر. حاولت إفهام معد البرنامج أثناء المكالمة أن هذه الظروف والشروط لا تتوفر، لأن المشاهدين لغتهم عربية لا إنجليزية وكلهم خارج بريطانيا، وبجانب أنهم لا يدلون بأصواتهم فيها فلن يكون حتى لهم تأثير على مسلمي بريطانيا أو سياستها. كما أن أغلبيتهم لا يعرف التعبيرات البرلمانية والعبارات التي تحدد العلاقة بين النائب والدائرة، ولا يعرف المشاهدون كيف يقابل النائب ناخبيه بالطريقة البريطانية. وإذا حسبنا الوقت الذي يستغرقه مقدمو البرامج في استعراض البلاغة والحنجلة الكلامية ومقاطعة الضيف (لتعويض النقص في المعلومات عن ثقافة سياسية لا يعرفونها ولا خبرة لهم به)، مع استماتة المتجادلين في الدفاع عن وجهتي نظرهما، لن يخرج المشاهدون بمعلومات مفيدة وربما قد ينتهي بهم الأمر أكثر كراهية لبريطانيا، لأن العامل الأول المسبب لكراهية الآخر هو الجهل بهذا الآخر.
اضطررت لتصحيح معلومات معد البرنامج بأن القوانين البريطانية الحالية تكفي للتعامل مع هذا النوع من الجرائم وغيرها، لكن البوليس وجهات الأمن تتكاسل في تطبيقها بسبب الثقافة السائدة في الرأي العام التي «تسير على قشر بيض» عندما يتعلق الأمر بالأقليات، خاصةً المسلمين، بانفجار تهمة «الإسلاموفوبيا» في وجه المسؤولين، كما كنا لا نزال يومها لا نعرف دوافع المتهم (ولم يحاكم بعد وتثبت إدانته) واسمه علي حرب علي، ولم يكن اتضح انتماؤه لتنظيم إسلام سياسي، وربما مسلم عادي مختل عقليا أو «ذئب منفرد»؟ كما أنه بريطاني الجنسية، وبالتالي فرضية الرأي الآخر المعاكس بشأن «تساهل بريطانيا في استقبال المهاجرين «لا يكون لها محل هنا فهو ليس وافداً وإنما نشأ هنا. وكما توقعت، «طفش» المعد، والذي لا شك وجد كثيرين من محبي الظهور الذين لا يعرفون النائب الراحل، ولا عن الديمقراطية البريطانية إلا القشور، وازداد المشاهد جهلاً على جهل ببريطانيا ونظامها وازدادت الهوة الثقافية والحضارية والمعرفية اتساعاً بين جنوب المتوسط وشماله!!