توقيت القاهرة المحلي 14:30:49 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«عدم الانحياز» يختلف عن «الحياد»

  مصر اليوم -

«عدم الانحياز» يختلف عن «الحياد»

بقلم - عادل درويش

ربما تكون «الأزمة» بين «بي بي سي» ومقدم برنامج «ماتش أوف ذي داي» غاري لينيكر - صاحب الأجر الأعلى بين المذيعين - انتهت، لكن «التسونامي» الذي أثارته من التساؤلات باقٍ يعصف بمؤسسات ودعائم ترتكز عليها بريطانيا.
أسئلة حول حريتي التعبير والصحافة، وروح القوانين (التقليدية)، لا شكلها، في قدرتها على حماية حرية الفرد وخصوصياته، بعد أن تحولت الإنترنت، كأهم ثورة لمقرطة المعرفة والمعلومات وتبادلها بحرية منذ اختراع الطباعة في 1450، إلى محيط متلاطم الأمواج يهدد سفن الحريات التي أشرنا إليها بالغرق.
الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أثارت التشوش والاختلاط في مفاهيم وتعريفات دقيقة لأبعاد علاقات متعددة: كعلاقة الصحافي الدائم، والحر (وفق، تعاقدهما) بالناشر (مؤسسات البث تعد ناشراً في القانون)، ومدى التزامها باللائحة الإرشادية التي يضعها صاحب العمل (كـ«بي بي سي» مثلاً)، وعلاقة الصحافي أو المشارك بالجمهور؛ والمسؤوليتين الشخصية، والجماعية المؤسساتية، تجاه المواطن أو المستهلك (القارئ والمستمع والمشاهد)، وتجاه الشعب (نعني البرلمان ممثلاً للشعب والحكومة المنتخبة جزء منه في بريطانيا). وهنا يتعاظم دور اللائحة الإرشادية في استخدام منابر ووسائل تعبير، اجتماعي أو تقليدية، خارج دائرة النشاط المهني للصحافي أو المذيع للخوض في نزاعات، أو إبداء أراء سياسية أو ذات طابع استقطابي في المجتمع.
الأزمة بدأت بسبب تغريدة على «تويتر»، شبّه فيها لينيكر مشروع قانون الحكومة للحد من الهجرة غير الشرعية بالقوارب التي يديرها مهربو البشر وتسببت في موت الكثيرين غرقاً، بسياسات ألمانيا النازية (راجع مقالنا الأسبوع الماضي وتغطية «الشرق الأوسط» في صفحات الرياضة للنزاع).
فقد أشارت «بي بي سي» إلى لائحة الإرشادات التحريرية (editorial guidelines)، التي تلزم موظفي الهيئة بعدم التعبير عن آرائهم والخوض في السياسة الانقسامية على منابر أخرى. فمسألة إسراف الشخصيات العامة والساسة في توظيف نموذج ألمانيا النازية للنيل من خصومهم تسبب آلاماً وتفقد معناها، ليس فقط لأن حكومات كبريطانيا منتخبة ديمقراطياً (بعكس ديكتاتوريات كألمانيا النازية)، ويسهل على الشعب التخلص منها في صناديق الاقتراع، بل أيضاً لأنها إهانة لذكرى الملايين الذين لقوا حتفهم بسبب النازي من كل قارات الدنيا، وبالتالي أوقفت هيئة الإذاعة لينيكر عن تقديم البرنامج، بعد أن رفض الاعتذار وسحب تغريدته.
فبعد رفض أغلبية الصحافيين والمعلقين الرياضيين المشاركة، توقفت معظم بقية البرامج الرياضية وتراجعت «بي بي سي» بدعوى التفرقة لغوياً بين التزام المتعاقد الحر وبين الصحافي الموظف. هنا لا بد من ضرورة التأكيد على دقة التعبيرات، وللترجمة الصحيحة أهمية مضاعفة، خصوصاً للقارئ غير البريطاني بلغة أصلية غير الإنجليزية. فلائحة الإرشادات التحريرية (editorial guidelines) غير التوجيهات الإرشادية (guidance)؛ الأولى إلزامية للموظف الدائم، والثانية توجيه للصحافي الحر المتعاقد، كحال لينيكر، لتجنب الدخول (اختيارياً) في قضايا تخاصمية خارج العمل.
اللوائح والتعبيرات القانونية صيغت قبل انتشار منابر التواصل الاجتماعي، وحرفياً لينيكر ليس موظفاً في الهيئة، لكنه بغير «بي بي سي» ما كان سيصل إلى هذه الشهرة ويدخل بيوت الملايين عبر الشاشة الصغيرة، فيتابعونه على «تويتر».
وأنا مثلاً كمؤلف كتب ومؤرخ وصحافي ومعلق، دعمت حق لينيكر في التعبير بحرية تامة (رغم اختلافي معه في سوء تفسيره لمشروع القانون، وفساد الذوق والتدني الأخلاقي في صياغته للتغريدة)، وتضامنت معه والصحافيين والمعلقين المتعاطفين معه في إضرابهم عن الظهور من منطلق العبارة الشهيرة «أنا أرفض تماماً ما تقول، لكني سأدافع حتى الموت عن حقك في التعبير عن رأيك»؛ والمنسوبة خطأ للشاعر الفرنسي فرنسوا - ماري فولتير (1694 - 1778) فصاحبتها الحقيقية الكاتبة الإنجليزية إيفلين بياتريس هول (1868 - 1956) (كانت تنتشر بالاسم المستعار ستيفين تاللينتير) في كتابها الصادر عام 1903 «حياة فولتير».
المشكلة التي تسببها مؤسسات يسارية كـ«بي بي سي»، وشخصيات كلينيكر، لنا كصحافيين كلاسيكيين، أنه بينما نلتزم نحن حرية التعبير بشكل حيادي كامل وندافع عن حقهم في مهاجمتهم لنا، تجدهم في المقابل لا يحترمون الحقوق نفسها للآخرين وليسوا محايدين. ونعود إلى مفهوم الحياد الذي تتجاهله «بي بي سي» في لائحتها التي توجه مذيعيها إلى «Impartiality» (عدم الانحياز)، وليس «الحياد» وهو «neutrality»، فالأولى تعني المنتصف بين خيارين كتعريف قانوني. وكان كوفي أنان (1938 - 2018) الذي قاد الأمم المتحدة ما بين 1997 و2006 كرر التأكيد على الفرق بين التعبيرين «Impartiality» (عدم الانحياز) و«neutrality» (الحياد التام)، في محاضرته مساء 22 يناير (كانون الثاني) 1999 أمام مجلس العلاقات الدولية في نيويورك، بقوله إن «عدم الانحياز» يعني مساعدة الضعيف والمظلوم، وتفضيل حقوق الإنسان في الميثاق العام للأمم المتحدة على مبدأ «الحياد».
ويذكر جيلنا نشاط مصر «الثورية» في خمسينات القرن الماضي في محور حركة عدم الانحياز عقب مؤتمر باندونغ (1955) وانطلق من راديو القاهرة شعار «الحياد الإيجابي»، ولم يكن حيادياً، بل كان في بدايته «impartial»، أي عدم انحياز لأي من المعسكرين في الحرب الباردة. بمعنى إعلان السياسة العامة (خصوصاً الخارجية) «غير منحازة»، لكنها في الواقع وضعت السياسة والاقتصاد والدعم العسكري لتنحاز لمن هم «على مزاجنا»، وتحولت إلى سلبية معادية «لثقيلي الظل أو الدم». وقد ورط ذلك كثيراً من بلدان حديثة الاستقلال في أفريقيا والشرق الأوسط في الاستقطاب نحو المعسكر الشيوعي أثناء الحرب الباردة، فوجدت الشعوب نفسها عرضة لعقوبات اقتصادية ومقاطعة تجارية، وورطتها الشعارات الآيدولوجية في حروب عبثية لا تزال تدفع ثمنها اليوم، والبداية الخلط ما بين الحياد وعدم الانحياز.
فاعتبار «Impartiality» في «بي بي سي» حياداً هو تضليل لدارسي التاريخ وإهانة لذكاء الناس؛ فاستبدالها «الحياد» بـ«عدم الانحياز» (بمفهوم مؤتمر باندونغ) ليس مصادفة، لأنها ومحرريها ليسوا محايدين، بل منحازة لا تسمح ببث تحليل يعارض سياقها الروائي في قضايا كادعاء أن التغير المناخي من صنع النشاط الإنساني في الرأسمالية، أو في الإجهاض، أو البريكسيت. الالتزام بحرية التعبير بلا استثناء يتطلب تغير الإرشادات الصحافية من «عدم الانحياز» إلى «الحياد التام»، فدرس التاريخ هنا ليس خوض حرب باردة، كما أشرنا أعلاه، بل حرب ثقافية ميزان القوى فيها يظلم المواطن العادي.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«عدم الانحياز» يختلف عن «الحياد» «عدم الانحياز» يختلف عن «الحياد»



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 13:16 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها بالسعودية
  مصر اليوم - شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها بالسعودية

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon