توقيت القاهرة المحلي 08:26:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مسرح السجن

  مصر اليوم -

مسرح السجن

بقلم : عادل درويش

 السجن تأديب وتهذيب وإصلاح... تذكرت هذه العبارة بمناسبة جدل يدور في بريطانيا بعد إعداد سجناء، يقضون عقوبات طويلة، مسرحية استعراضية لرواية الأديب الفرنسي فيكتور هوغو (1802 - 1885) المعروفة عربياً بـ«البؤساء» (1862) التي أنتجت السينما منها ستة أفلام أمينة للرواية الأصلية، وعدداً لا يحصى من التحويرات المعدلة. أشهرها على المسرح كانت الاستعراضية الموسيقية في لندن وبرودواي.

مسرحة العمل الأدبي العملاق المعقد الذي يؤرخ لفترة صاخبة في التاريخ الفرنسي (1815 - 1832) يحتاج لعبقرية لتحويلها إلى مشاهد بسيطة التعبير توصل رسالتها للمتفرج.

أول من قدمها بالعربية كان المسرحي والموسيقار السكندري الشيخ سلامة حجازي (1852 - 1917) الذي كانت أعماله الفنية مدرسة لجمهور أغلبه أمي، تعرفه بأحداث عالمه المعاصر. بعدها بخمسة عقود قدمها عملاق المسرح المصري يوسف بك وهبي (1902 - 1982).

في 2018 فضل السجناء البريطانيون الشكل الاستعراضي الموسيقي ليحكي أحداث 17 عاماً في 27 أغنية راقصة.

بعد شهر من البروفات أصبحت المسرحية جاهزة وثمن التذكرة سبعون جنيهاً، مثل أفخم المسرحيات في منطقة الويست إند في لندن. الجدل، بين معترض على التجربة ومتحمس لها، يعود للاختلاف في تفسير مفهوم تأديب وتهذيب وإصلاح (ولها مقابل في كل لغات العالم).

التأديب، أي مرحلة العقوبة، فالتهذيب يشمل التعليم لتسوية الشخصية (مثل تهذيب سياج الأشجار لتساوي الغصون) كي يتسق المذنب تدريجياً مع بقية أفراد المجتمع، ثم مرحلة إعادة تأهيل النفس والذهن بإصلاح ما تخرب من شخصيته.

تتفاوت درجات التواصل أو الانفصال بين المراحل الثلاث، أو التداخل بينها حسب تقدم وتطور المجتمع ورقيه.

لا نقصد بالتقدم والرقي ثراء المجتمع أو تطوره تكنولوجياً ومادياً، بل حضارياً وأخلاقياً واستيعاب مفهوم العدالة إنسانياً.

بلدان أوروبية يتضاءل اقتصادها بجانب أميركا، التركيز فيها أكثر على مرحلتي التهذيب والإصلاح بحسن المعاملة، بينما تركز السجون الأميركية على العقاب، والتقييد بالسلاسل.

وبينما تطبق معظم الولايات الأميركية عقوبة الإعدام (ومفهوم السجن في هذه الحالة يصبح مجرد مرحلة انتقالية نحو «العقاب» النهائي، وهي «انتقام» المجتمع من المتهم وليس تطبيق العدالة بمعناها الإنساني) تجد البلدان الأوروبية لا تطبق عقوبة الإعدام، (وغياب عقوبة الإعدام شرط انضمام أي بلد لعضوية الاتحاد الأوروبي).

فلسفة السجن الحديثة بعد مرحلة العقاب بالتأديب يؤهل السجين ليعود كقوة عاملة يستفيد منها المجتمع، وهي وراء فلسفة التأديب والتهذيب والإصلاح، لكن المجتمع مكون من أفراد يراها كل منهم من منظور تجربته الخاصة، بل تتغير رؤية الفرد وسط مجموعة تتداخل عواطفه وتفكيره مع تفكيرها الجماعي، والأغلبية ترى السجن غاية هي العقاب لا وسيلة للإصلاح. البلدان التي تطبق المراحل الثلاثية للسجن تخضع مصلحة السجون فيها لوزارة العدل إدارياً، ولا تتبع وزارة الداخلية أو المؤسسة الأمنية؛ فالقضاء في الديمقراطيات الناضجة سلطة مستقلة عن التشريعية والتنفيذية.

الرأي العام أو العقل الجماعي، وغالباً ما يخضع للعواطف أكثر منه للتفكير المنطقي البارد، يخلط في معظم الأحوال بين مفهومي العدل justice، الذي يشتمل على كل من عقاب فاعل الضرر وتعويض المتضرر، والجزاء retribution، الذي لا تعويض فيه للمتضرر سوى نشوة عاطفية لحظة شفاء الغليل بمفهوم بدائي، عندما يتدلى المذنب من نهاية حبل المشنقة، أو يغلق وراءه باب الزنزانة، وتنتهي حياته تماماً وراء قضبان «المؤبد».
اختيار مسرحية البؤساء نفسها «لتهذب وإصلاح» السجناء يضع المفاهيم المعقدة عن العدالة بمفهوميها، الإنساني والقانوني، التي فحصها هوغو في روايته بعدسة القرن التاسع عشر، تحت مجهر القرن الحادي والعشرين.

بطل الرواية جان فالجان يذهب إلى معتقل الأغلال بالأشغال الشاقة في قطع الأحجار. جريمته سرقة رغيف خبز وهو على وشك الموت جوعاً. المعتقل هنا وسيلة انتقام، بدلاً من العدالة الإنسانية، كأن يجبر فالجان مثلاً على العمل لفترة يفوق أجرها ثمن تعويض الخباز عن تحطيم نافذته.

يهرب فالجان، ويقضى الليل ضيفاً عند أسقف فيسرق الأدوات الفضية الثمينة من داره.

عند القبض على فالجان ومعه الثروة الفضية يضع هوغو المجتمع الفرنسي أمام أسئلة عن دور الكنيسة ورجل الدين والتفسيرات المتعددة لمفهومي الخير والشر.

يفاجئ رجل الدين اللص فالجان والبوليس بقوله: «يا أخي العزيز لقد نسيت أن تأخذ ثلاث أوان أخرى من ممتلكاتك» ويأمر مساعدته بإحضارها، ويدعو له بالتوفيق، مؤكداً أن الفضيات ملك فالجان.

في دوره أديباً مثقفاً يطلب هوغو من رجل الدين أن يكون قدوة، ويجعل من إمكانياته أداة لتهذيب وإصلاح المجتمع.

ثروة فضيات الكنيسة كانت رأس مال جعل من فالجان صاحب مصنع في بلد صغير، ثم عمدة البلد الذي يفعل الخير ويوفر الأرزاق، ويقوم بأعمال إصلاحية ولا يخطئ أو يكذب إلا مضطراً كخطوة على طريق خير أكبر.

فضيات كانت سجينة فاترينة عرض تحولت إلى مشروع استثماري يوظف العشرات، ويطور مدينة، وحولت اللص إلى قدوة لفاعل الخير في المجتمع. الشخصية النقيض مفتش البوليس جافيرت، الذي يرى القانون أبيض وأسود، والعدل انحصر في مفهوم الجريمة والعقاب وليس في المفهوم الإنساني لفالجان وأسقف الكنيسة. مهمة جافيرت إعادة فالجان إلى المعتقل.

فالجان رغم ثرائه وحريته من سجن العذاب فلا يزال سجين سره والشخصية الأخرى التي انتحلها، فلم يجد الخلاص بالمفهوم الروحاني، بينما المفتش جافيرت سجين مفهومه الضيق لمهمته في الحياة.

في آخر فصول الرواية يقبض ثوار انتفاضة باريس الجمهورية (5 - 6 يونيو/ حزيران 1832) على المفتش جافيرت ويحكمون عليه بالإعدام موكلين المهمة لفالجان لانشغالهم بالدفاع عن المتاريس في معركتهم الانتحارية. فالجان، رغم قسوة النظام الحاكم وظلمه له، فإنه يرفض «العدالة الثورية» للجمهوريين. وبعدالته الإنسانية، ينقذ حياة جافيرت ويرشده لنفق الهرب إلى نهر السين. جافيرت ورجاله يعدون كميناً لفالجان في نهاية النفق. يستسلم فالجان في تضحية أخيرة مقابل أن يترك جافيرت ابنته (التي تبناها بعد موت أمها في نهاية حياة معذبة على طريق الخطيئة) وخطيبها يهربان لإنجلترا. أمام طيبة فالجان المفرطة وتضحياته تنشل ذهنية جافيرت الجامدة، التي ينحصر فهمها للعدالة في التطبيق البيروقراطي للقانون، الذي لم يعده المشرع لتعقيدات معادلة الخير والشر. وعندما يعجز عقل جافيرت عن التصالح مع المفهوم الإنساني للعدالة، يلقي بنفسه في نهر السين منتحراً. أليست «بؤساء» فيكتور هوغو إذن أفضل عمل مسرحي يمكن أن يتدرب عليه نزلاء السجن، لتهذيبهم وإصلاحهم، خاصة بعد أن اتضح أن السجون هي الساحة الكبرى التي يجند فيها الإرهابيون؟

نقلا عن الشرق الآوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مسرح السجن مسرح السجن



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon