توقيت القاهرة المحلي 14:27:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مسرح السجن

  مصر اليوم -

مسرح السجن

بقلم : عادل درويش

 السجن تأديب وتهذيب وإصلاح... تذكرت هذه العبارة بمناسبة جدل يدور في بريطانيا بعد إعداد سجناء، يقضون عقوبات طويلة، مسرحية استعراضية لرواية الأديب الفرنسي فيكتور هوغو (1802 - 1885) المعروفة عربياً بـ«البؤساء» (1862) التي أنتجت السينما منها ستة أفلام أمينة للرواية الأصلية، وعدداً لا يحصى من التحويرات المعدلة. أشهرها على المسرح كانت الاستعراضية الموسيقية في لندن وبرودواي.

مسرحة العمل الأدبي العملاق المعقد الذي يؤرخ لفترة صاخبة في التاريخ الفرنسي (1815 - 1832) يحتاج لعبقرية لتحويلها إلى مشاهد بسيطة التعبير توصل رسالتها للمتفرج.

أول من قدمها بالعربية كان المسرحي والموسيقار السكندري الشيخ سلامة حجازي (1852 - 1917) الذي كانت أعماله الفنية مدرسة لجمهور أغلبه أمي، تعرفه بأحداث عالمه المعاصر. بعدها بخمسة عقود قدمها عملاق المسرح المصري يوسف بك وهبي (1902 - 1982).

في 2018 فضل السجناء البريطانيون الشكل الاستعراضي الموسيقي ليحكي أحداث 17 عاماً في 27 أغنية راقصة.

بعد شهر من البروفات أصبحت المسرحية جاهزة وثمن التذكرة سبعون جنيهاً، مثل أفخم المسرحيات في منطقة الويست إند في لندن. الجدل، بين معترض على التجربة ومتحمس لها، يعود للاختلاف في تفسير مفهوم تأديب وتهذيب وإصلاح (ولها مقابل في كل لغات العالم).

التأديب، أي مرحلة العقوبة، فالتهذيب يشمل التعليم لتسوية الشخصية (مثل تهذيب سياج الأشجار لتساوي الغصون) كي يتسق المذنب تدريجياً مع بقية أفراد المجتمع، ثم مرحلة إعادة تأهيل النفس والذهن بإصلاح ما تخرب من شخصيته.

تتفاوت درجات التواصل أو الانفصال بين المراحل الثلاث، أو التداخل بينها حسب تقدم وتطور المجتمع ورقيه.

لا نقصد بالتقدم والرقي ثراء المجتمع أو تطوره تكنولوجياً ومادياً، بل حضارياً وأخلاقياً واستيعاب مفهوم العدالة إنسانياً.

بلدان أوروبية يتضاءل اقتصادها بجانب أميركا، التركيز فيها أكثر على مرحلتي التهذيب والإصلاح بحسن المعاملة، بينما تركز السجون الأميركية على العقاب، والتقييد بالسلاسل.

وبينما تطبق معظم الولايات الأميركية عقوبة الإعدام (ومفهوم السجن في هذه الحالة يصبح مجرد مرحلة انتقالية نحو «العقاب» النهائي، وهي «انتقام» المجتمع من المتهم وليس تطبيق العدالة بمعناها الإنساني) تجد البلدان الأوروبية لا تطبق عقوبة الإعدام، (وغياب عقوبة الإعدام شرط انضمام أي بلد لعضوية الاتحاد الأوروبي).

فلسفة السجن الحديثة بعد مرحلة العقاب بالتأديب يؤهل السجين ليعود كقوة عاملة يستفيد منها المجتمع، وهي وراء فلسفة التأديب والتهذيب والإصلاح، لكن المجتمع مكون من أفراد يراها كل منهم من منظور تجربته الخاصة، بل تتغير رؤية الفرد وسط مجموعة تتداخل عواطفه وتفكيره مع تفكيرها الجماعي، والأغلبية ترى السجن غاية هي العقاب لا وسيلة للإصلاح. البلدان التي تطبق المراحل الثلاثية للسجن تخضع مصلحة السجون فيها لوزارة العدل إدارياً، ولا تتبع وزارة الداخلية أو المؤسسة الأمنية؛ فالقضاء في الديمقراطيات الناضجة سلطة مستقلة عن التشريعية والتنفيذية.

الرأي العام أو العقل الجماعي، وغالباً ما يخضع للعواطف أكثر منه للتفكير المنطقي البارد، يخلط في معظم الأحوال بين مفهومي العدل justice، الذي يشتمل على كل من عقاب فاعل الضرر وتعويض المتضرر، والجزاء retribution، الذي لا تعويض فيه للمتضرر سوى نشوة عاطفية لحظة شفاء الغليل بمفهوم بدائي، عندما يتدلى المذنب من نهاية حبل المشنقة، أو يغلق وراءه باب الزنزانة، وتنتهي حياته تماماً وراء قضبان «المؤبد».
اختيار مسرحية البؤساء نفسها «لتهذب وإصلاح» السجناء يضع المفاهيم المعقدة عن العدالة بمفهوميها، الإنساني والقانوني، التي فحصها هوغو في روايته بعدسة القرن التاسع عشر، تحت مجهر القرن الحادي والعشرين.

بطل الرواية جان فالجان يذهب إلى معتقل الأغلال بالأشغال الشاقة في قطع الأحجار. جريمته سرقة رغيف خبز وهو على وشك الموت جوعاً. المعتقل هنا وسيلة انتقام، بدلاً من العدالة الإنسانية، كأن يجبر فالجان مثلاً على العمل لفترة يفوق أجرها ثمن تعويض الخباز عن تحطيم نافذته.

يهرب فالجان، ويقضى الليل ضيفاً عند أسقف فيسرق الأدوات الفضية الثمينة من داره.

عند القبض على فالجان ومعه الثروة الفضية يضع هوغو المجتمع الفرنسي أمام أسئلة عن دور الكنيسة ورجل الدين والتفسيرات المتعددة لمفهومي الخير والشر.

يفاجئ رجل الدين اللص فالجان والبوليس بقوله: «يا أخي العزيز لقد نسيت أن تأخذ ثلاث أوان أخرى من ممتلكاتك» ويأمر مساعدته بإحضارها، ويدعو له بالتوفيق، مؤكداً أن الفضيات ملك فالجان.

في دوره أديباً مثقفاً يطلب هوغو من رجل الدين أن يكون قدوة، ويجعل من إمكانياته أداة لتهذيب وإصلاح المجتمع.

ثروة فضيات الكنيسة كانت رأس مال جعل من فالجان صاحب مصنع في بلد صغير، ثم عمدة البلد الذي يفعل الخير ويوفر الأرزاق، ويقوم بأعمال إصلاحية ولا يخطئ أو يكذب إلا مضطراً كخطوة على طريق خير أكبر.

فضيات كانت سجينة فاترينة عرض تحولت إلى مشروع استثماري يوظف العشرات، ويطور مدينة، وحولت اللص إلى قدوة لفاعل الخير في المجتمع. الشخصية النقيض مفتش البوليس جافيرت، الذي يرى القانون أبيض وأسود، والعدل انحصر في مفهوم الجريمة والعقاب وليس في المفهوم الإنساني لفالجان وأسقف الكنيسة. مهمة جافيرت إعادة فالجان إلى المعتقل.

فالجان رغم ثرائه وحريته من سجن العذاب فلا يزال سجين سره والشخصية الأخرى التي انتحلها، فلم يجد الخلاص بالمفهوم الروحاني، بينما المفتش جافيرت سجين مفهومه الضيق لمهمته في الحياة.

في آخر فصول الرواية يقبض ثوار انتفاضة باريس الجمهورية (5 - 6 يونيو/ حزيران 1832) على المفتش جافيرت ويحكمون عليه بالإعدام موكلين المهمة لفالجان لانشغالهم بالدفاع عن المتاريس في معركتهم الانتحارية. فالجان، رغم قسوة النظام الحاكم وظلمه له، فإنه يرفض «العدالة الثورية» للجمهوريين. وبعدالته الإنسانية، ينقذ حياة جافيرت ويرشده لنفق الهرب إلى نهر السين. جافيرت ورجاله يعدون كميناً لفالجان في نهاية النفق. يستسلم فالجان في تضحية أخيرة مقابل أن يترك جافيرت ابنته (التي تبناها بعد موت أمها في نهاية حياة معذبة على طريق الخطيئة) وخطيبها يهربان لإنجلترا. أمام طيبة فالجان المفرطة وتضحياته تنشل ذهنية جافيرت الجامدة، التي ينحصر فهمها للعدالة في التطبيق البيروقراطي للقانون، الذي لم يعده المشرع لتعقيدات معادلة الخير والشر. وعندما يعجز عقل جافيرت عن التصالح مع المفهوم الإنساني للعدالة، يلقي بنفسه في نهر السين منتحراً. أليست «بؤساء» فيكتور هوغو إذن أفضل عمل مسرحي يمكن أن يتدرب عليه نزلاء السجن، لتهذيبهم وإصلاحهم، خاصة بعد أن اتضح أن السجون هي الساحة الكبرى التي يجند فيها الإرهابيون؟

نقلا عن الشرق الآوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مسرح السجن مسرح السجن



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon