بقلم:عادل درويش
القول الإنجليزي «تمنينا المطر فأغرقنا السيل»، مقابلها بالمصري «يطلع من حفرة يقع في دُحديرة (منزلق)»، وبالأميركية «دابل وامي» (خبطة مزدوجة) مثل صفعة و«قفا» مهين... فكرت في الأقوال الشعبية العالمية بعد الضربة المزدوجة التي تلقاها الزعيم البريطاني بوريس جونسون فجر الجمعة عقب خسارة حزبه المحافظ لانتخابات فرعية في دائرتين؛ الأولى توفيرتون وهونيتون، في مقاطعة ديفون، كانت في حوزة المحافظين منذ انتخابات 1923 بزعامة ستانلي بولدوين (1867 - 1947) خسرها المحافظون للديمقراطيين الأحرار، وسكانها أكثر ثراء وتمسكاً بالتقاليد، من دائرة ويكفيلد (مقاطعة يوركشير ويقطنها طبقة عاملة وأحوالها الاقتصادية ليست على ما يرام) خسرها المحافظون للعمال في ليلة الخميس. هناك تشابه بين الدائرتين في قسوة الخسارة التي مني بها تيار جونسون: كلتا الدائرتين صوتتا لـ«بريكست»، وجونسون يعتبر ماركته الانتخابية في الشارع الإنجليزي. ويكفيلد كانت دوماً مع العمال، ومن الدوائر الخمسين في مناطق الطبقات العمالية التي اقتنصها المحافظون من العمال في انتخابات 2019.
وكأن الصفعة والقفا لا يكفيان لإهانة جونسون، فقد تلقى ركلة قبل شروق شمس الجمعة باستقالة أوليفر داودين رئيس مجلس إدارة حزب المحافظين، وهو منصب وزاري، والمسؤول عن استراتيجية تنظيم الحملة الانتخابية. خطاب استقالته العلني كان أكثر من «شلوت»، فقد تضمن طعنتين؛ الأولى في صدر رئيس الوزراء؛ بعبارة مضمونها دعوة لاستقالته بقوله: «لا بد من تحمل مسؤولية الهزيمة في الانتخابات الفرعية»؛ أما طعنة الظهر فهي ما لم تذكره فقرة «الولاء» التقليدية في خطاب الوزير المستقيل، للزعيم (رئيس الوزراء) وللوطن. داودين أكد ولاءه للحزب الحاكم كمؤسسة تلتزم بتقاليد وسياسة المحافظين؛ الملاحظ غياب جملة «الولاء لرئيس الحكومة».
وسواء كان الأمر مبالغة من الوسائل الصحافية (وغالبيتها المؤثرة في الرأي العام، خاصة الشبكات التلفزيونية ضد جونسون وتريد عكس نتيجة البريكست وإعادة بريطانيا إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي) أم لا، فإن الجانب الأخلاقي، والثقة بجونسون وتصديق تصريحاته، لعب دوراً أساسياً في فقدان المحافظين لدائرة توفيرتون وهونيتون لأن سكانها تقليديون، ومتمسكون بالقيم، فقد لعبت الصحافة ووسائل الرأي العام دورها الأكبر في تضخيم حكاية «بارتي غيت» (خرق موظفي ومساعدي جونسون لإجراءات الوقاية والحظر الصحي أثناء «كوفيد») واتهامه بتضليل البرلمان، ثم تسريب معلومات للصحافة بأنه حاول إيجاد وظيفة لفتاته (زوجته الحالية) في وزارة الخارجية عندما كان وزيراً لها. المعلومات ظهرت وانتشرت قبل الانتخابات الفرعية بثلاثة أيام.
داودين هو أول وزير يستقيل من مجلس الوزراء، لأن بقية المنتقدين لسياسة جونسون كانوا من النواب العاديين، ومعظمهم من البقائيين في الاتحاد الأوروبي وليسوا من البريكستيين.
هل حان الوقت لكتابة مرثية جونسون ونشرها في صفحة الوفيات السياسية؟
كنا ذكرنا هنا قبلاً أن بقاء جونسون زعيماً للمحافظين مرتبط بمدى استمرار نجاحه كماركة ترويج سلعتهم لدى الناخب، أما إذا تحول إلى عبء انتخابي فسيتخلصون منه، ويبحثون عن زعيم يبحر بالسفينة بين أمواج الانتخابات.
وبالطبع هناك عامل آخر وهو قدرة لجنة 1922 (اللجنة المكونة من نواب الحزب البرلمانيين) على تعديل لائحة اختيار الزعيم، فقد تعرض جونسون للتحدي وفاز بثقة النواب قبل أسبوعين، ولا تسمح اللائحة الحالية بإعادة طرح عدم الثقة قبل مرور اثني عشر شهراً.
ولتقدير ما إذا كانت خسارة الدائرتين يوم الخميس تشكل فعلاً خطر فوز العمال بالانتخابات القادمة (في 2024)، فلا بد من تحليل ما حدث في الدائرتين.
أنصار جونسون يشيرون إلى ظاهرة بريطانية تتكرر، وهي أن الانتخابات الفرعية دائماً بين الانتخابات العامة (التي تتكرر كل خمس سنوات) تكون احتجاجية على سياسة الحكومة، لأمور، غالباً محلية، وأيضاً تتعلق بالاقتصاد.
فبجانب الحملة الصحافية الشرسة ضد جونسون، فإن غلاء المعيشة، وارتفاع التضخم، الذي يقدر بنك إنجلترا أن يصل إلى 11 في المائة، ورفع سعر الفائدة إلى خمسة أضعاف ما كان عليه قبل ستة أشهر، والارتفاع غير المسبوق في أسعار الوقود، ليس فقط التدفئة المنزلية، بل أيضاً البنزين والديزل لعب دوره الأكبر في دفع الناخب للتصويت الاحتجاجي. فسكان الريف ليس لديهم خيارات سكان المدن في توفير الوقود باستخدامه للتنقل في المواصلات العامة بسهولة، فالريفيون يحتاجون السيارات للتنقل اليومي ولتشغيل الميكنة الزراعية.
أنصار جونسون يستشهدون بخسارة حكومة مارغريت ثاتشر لخمس عشرة دائرة في ثلاث سنوات، (منذ انتخابات 2019 خسر المحافظون أربع دوائر وكسبوا واحدة من العمال)، ثم نجحت بزيادة المقاعد في الانتخابات التالية.
ورغم فداحة الخسارة (نفسياً وسياسياً) للمحافظين، فإن مجموع الأرقام عددياً لا يزال لصالح المحافظين أكثر من العمال (فأنصار المحافظين لم يصوت أغلبهم احتجاجاً، ودائرة الريف أغلبية الأصوات كانت للديمقراطيين الأحرار)، وبالتالي لا تشير إلى إمكانية انتصار العمال في انتخابات قادمة بأغلبية تكفي لتشكيلهم الحكومة القادمة.
لكن هل يتمكن العمال من تشكيل حكومة ائتلافية (القوميون الأسكوتلنديون والخضر والقوميون من ويلز والديمقراطيين الأحرار)؟ هذا يتوقف على قدرة الديمقراطيين الأحرار من اقتناص العدد الكافي من دوائر المحافظين في الانتخابات القادمة.
فما حدث يوم الخميس يعرف بالتصويت التكتيكي: لم يتحدَ الديمقراطيون الأحرار العمال بكامل قوتهم في دائرة ويكفيلد وفي المقابل ترك العمال دائرة نوفيرتون وهونيتون للديمقراطيين الأحرار للصول والجول. فقد نزل الديمقراطيون الأحرار بكل قوتهم، وكانوا ينقلون كبار السن والعجزة والأسر غير القادرة بسياراتهم إلى مراكز الاقتراع يوم الخميس. لكن ليس لديهم الأعداد الكافية من ناشطي الحزب والإمكانيات للنزول بالقوة والحيوية نفسها في 650 دائرة في البلاد في الانتخابات العامة، كما أن سياستهم المعلنة هي إعادة بريطانيا إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي، وهو ما يناقض تماماً تصويت الدائرتين، أما دائرة ويكفيلد العمالية، فلا يزال موقف الزعيم العمالي السير كيير ستارمر غير واضح من سياسة عكس البريكست؛ أما سياسته بالنسبة للهجرة والضرائب والبيئة فأقرب إلى الديمقراطيين الأحرار، وهو ما رفضته الطبقات العاملة البريطانية. حسابات لا تزال مطمئنة للمحافظين وتجعلنا نتردد في كتابة مرثية الموت السياسي لجونسون، اللهم إلا إذا أثبتت لجنة السلوك البرلمانية أنه تعمد تضليل مجلس العموم فليس أمامه إلا الاستقالة.