بقلم - عادل درويش
البرنامج الصباحي «اليوم» (الترجمة لـ«توداي») في راديو الـ«بي بي سي» يبث لخمسة وستين عاماً، ما بين السادسة والتاسعة من أيام الأسبوع.
البرنامج يستضيف الساسة (حكومة ومعارضة) والمتخصصين في مجالات شؤون الساعة المعاصرة. وما يتناولونه يصبح محل أسئلة نواب مجلس العموم، ويثيرها الصحافيون البرلمانيون في لقائهم مع داوننغ ستريت، ومع الوزراء والنواب. فبرنامج «اليوم»، كلقب على مسمى، يحدد الأجندة السياسية اليومية في بريطانيا.
في عام 2003 بدأ «توداي» تقليداً جديداً في موسم أعياد الميلاد؛ الأيام التي يكون فيها البرلمان في عطلة أيضاً، ما بين الكريسماس والعام الجديد. بدأ بخمسة برامج، زادت في 2009 إلى ستة، ثم سبعة في 2018، وتختار اللجنة المشرفة (controllers) لكل يوم «المحرر الضيف». غالباً شخصية عامة، أو شخصية عرفها الرأي العام من حدث غير عادي أثناء السنة، لتختار (نظرياً) فقرات البرنامج، وأهمها وأطولها، مقابلة الثامنة (حوالي عشر دقائق).
المحررون والمذيعون صحافيو وفنيو الـ«بي بي سي» المدربون طبعاً، والمحرر الضيف يأتي بخبرة إضافية واهتمامات في الحياة، لم تكن في جدول الأعمال أو على قائمة الفقرات الإخبارية أو شؤون الساعة، التي أعدها محرروها (ظاهرياً أو حسبما تحاول الـ«بي بي سي» أن تقنع مستمعيها).
لكن اختيار المحرر الضيف، منطقياً، مقصود حسب نوعية الاهتمامات التي يأتي بها. فمثلاً تضمن الضيوف المحررون هذا الموسم: البريطانية الإيرانية نازانين زغاري - رادكليف، ومن المتوقع مقدماً أن تجربتها كسجينة في إيران لعدة سنوات (أفرجت عنها الجمهورية الإسلامية بعد أن أنهت بريطانيا تجميدها لأرصدة إيرانية) ستكون «الجديد» في تحريرها للبرنامج. أيضاً الشيف المشهور جيمي أوليفر، وكما توقعنا، محور اهتمامه كان الوجبات المدرسية للأطفال، خصوصاً الفقراء منهم، واستبدال وجبات صحية بثمن رخيص بالوجبات السريعة، لأنه أطلق الحملة قبل سنوات. كذلك اللورد إيان بوطهام، بطل الكريكيت السابق رئيس عدة حملات خيرية لجمع التبرعات، أهمها تشخيص سرطان لوكيميا الأطفال، ومن المتوقع محورة فقراته حول علاج الأطفال ونشاطه الخيري.
وهذا يجرنا للحديث حول أكثر الوسائل الصحافية تأثيراً اليوم، ومدى أن تكون مستقلة تماماً عن وسائل التواصل الاجتماعي، أو أن الأخيرة منافسة أو مكملة لها، أم متواصلان مع بعضهما البعض؟
وهل الأجندة الإذاعية في موسم عطلة أعياد الميلاد، كانت غير سياسية؟ أم في جوهرها سياسية، وتوجه الرأي العام، بشكل مبسط غير مباشر في مجتمع الحرية والديمقراطية المفتوحة وصحافة حرة بلا رقابة، أم تصادف توجهها مع بعض المصالح؟
يوم الجمعة كان المحرر الضيف بيون أوليفايوس مغني جوقة «أبا» السويدية، وبجانب تاريخ مسابقة الأغنية الأوروبية، ركز على قرصنة الموسيقى على الإنترنت، مطالباً ببطاقة هوية إلكترونية (meta – ID) للموسيقيين توشم بها أعمالهم لحماية حقوقهم.
محرر يوم الخميس كان جيرمي فليمنغ مدير مركز اتصالات الحكومة. المركز بالأقمار الصناعية والكومبيوتر وسيلة للتنصت على إذاعات العالم، والمكالمات والإنترنت والاتصالات، وإعداد التقارير لأجهزة المخابرات المختلفة والجيش. يعرف بـ«GCHQ»، المركز عيون وآذان الأمن البريطاني، تأسس عقب الحرب العالمية الأولى كـ«المدرسة الحكومية لكود الشفرة»؛ ولعب دوراً أساسياً في حل شفرات البرقيات الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وتغير اسمه في 1946 إلى الاسم الحالي. فلينمغ، المدير السادس عشر للمركز، عيّنه في 2017 بوريس جونسون (بالصلاحية التقليدية وزيراً للخارجية). اختياره يعني أن اهتمامه في برنامج «اليوم» في الـ«بي بي سي» سيركز على الأمن والتنصت والأبعاد الاستخباراتية.
وكما يتوقع القراء، كان التركيز على دور المخابرات والأجهزة الإلكترونية الحديثة، بالطبع لحماية الديمقراطية والمجتمع الحر المفتوح من أخطار الأنظمة الشمولية.
في فقرة المقابلة الرئيسية، اختار فليمنغ إجراء لقاء حول دور الاستخبارات وتأثير المعلومات في الحرب الإلكترونية وحرب المعرفة، مع السيدة أفريل هاينز، نائبة رئيس وكالة الأمن القومي ومستشارة البيت الأبيض للاستخبارات التي تشرف على ثماني عشرة وكالة أمن قومي ومخابرات فيدرالية.
وهي المرة الأولى التي أصادفها في مسيرة مهنية لخمسة وخمسين عاماً لمقابلة إذاعية لأكبر مسؤول عن جمع المعلومات المخابراتية في بلاده، يستجوب، كصحافي تحقيقي، نظيره في بلد آخر (ناهيك عن أنها أقوى وأغنى بلد فيدرالي في العالم وفيها أكبر عدد من وكالات الأمن والاستخبارات عرفها التاريخ).
التركيز، كما يتوقع القارئ، كان على ما سماه رئيسا الاستخبارات (وبالطبع مذيعو الـ«بي بي سي») «صدق المعلومات»، و«الأخبار المزيفة» أو الكاذبة (fake - news). وليست مفاجأة أن يكون البطل السلبي للدراما الإذاعية (حسب القواعد التقليدية للدراما عن البطل الطيب وغريمه الشرير) هو الزعيم الروسي بوتين، وأن الخطر الأكبر من هذه الحرب الدعائية على الفضاء الإلكتروني وبقية المنصات من وسائل تواصل تقليدية هو الدعاية الموجهة من دول الأنظمة الشمولية. كما لم يكن الأمر مفاجأة أن يزج باسم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب (المفارقة أنه كان أول من استخدم تعبير الأخبار المزيفة لوصف الحملة التي أثارتها الغالبية العظمى من الوسائل الصحافية ضده) ضمن شخصيات الدراما السلبيين.
امتلاك المليونير المثير للجدل إيلون ماسك لـ«توتير» لم يفت معدي البرنامج؛ وهو أمر سبق موسم الضيوف المحررين، من دافع نبيل طبعاً، وهو قلق الـ«بي بي سي» على حرية التعبير، وخطورة امتلاك شخص واحد، ملياردير (أو بليونير) كالسيد ماسك لمنصة «تويتر».
الطريف أن القلق على مصير ركن أساسي من أركان الديمقراطية، كان مفاجأة لي، فلم تكن لهذه الإذاعة تغطية تذكر لظاهرة «اللامنبرة» في الجامعات البريطانية (بإلغاء محاضرات الأساتذة الزائرين ورفض الكتب التي يحتج عليها اليسار). كما لا أذكر قلقهم من مارك زوكربرغ لأكثر الوسائل تأثيراً ما دفع الكونغرس لاستجوابه في 2018، أو تجميده و«تويتر» لحساب الرئيس ترمب؛ أو قلقهم لمنع تغريدات وبوستات من يطرح أسئلة حول ادعاء مسؤولية النشاط الإنساني وحده عن التسخين الحراري، أو من يطالب بنشر الأدلة من مصادر علمية محايدة في هذا الشأن، أو حتى تغريدة تتساءل عن مدى سلامة تطعيم الأطفال في سن الرضاعة بأمصال إحصائياتها مصدرها شركات إنتاج الأمصال نفسها.
المحرر الضيف يأتي بالجديد طبعاً!