بقلم : عادل درويش
ترحيب يشوبه الحذر في علاقة عملاقي التواصل الاجتماعي، «غوغل» و«فيسبوك»، مع عدد معتبر من دور النشر والمؤسسات الصحافية في المملكة المتحدة، بعد شهر من تراجع سمعتيهما بسبب الرقابة التي فرضتها «تويتر» و«فيسبوك» على حرية التعبير، وتهديد هذه المنصات غير المسبوق لأستراليا بقطع التواصل عن المشاركين فيها.
فقد وقعت «غوغل» اتفاقاً تجارياً مع 150 من المؤسسات ودور النشر التي تطبع الصحف الإخبارية وتوزعها وأصحاب المواقع الإخبارية معاً، وذلك بعد أسبوعين فقط من توقيع «فيسبوك» اتفاقية مماثلة مع ناشري الصحف والمواقع البريطانية. وكان هذا نقطة الخلاف الأساسية مع الحكومة الأسترالية لرفض «غوغل» و«فيسبوك» دفع مقابل للأخبار التي تنشر عبر المنصتين (راجع مقالنا في «الشرق الأوسط» 25 يناير/ كانون الثاني هذا العام).
الترحيب والتفاؤل يجب أن يشوبهما الحذر، لأن «غوغل» سارعت لتحسين صورتها بعد أن ظهر تضامن الناشرين والصحافة البريطانية (وكثير من صحافيي العالم) مع أستراليا. وقد تكون لعبة «فرق تسد» بين البريطانيين والأستراليين، خاصة في الفارق الضخم بين السوقين، فتعداد أستراليا 25 مليوناً مقابل 66 مليوناً و700 ألف في بريطانيا.
ماذا وراء الاتفاق الجديد؟
من يستخدم محركات بحث مثل «ياهو» أو «غوغل»، أو يضغط على رابط على «فيسبوك» أو «تويتر» لقراءة موضوع اكتفت وسيلة التواصل الاجتماعي بذكر عنوانه وفقرته الأولى، يصطدم في معظم الأحوال بما يعرف بـpaywall أو جدار الاشتراك. اجتياز الحاجز يكون بأجر مدفوع للزيارة الواحدة مثل «نيويورك تايمز»، أو باشتراك شهري أو سنوي مدفوع الأجر كـ«التايمز» و«ديلي تلغراف». ومعظم المواقع المجانية تطلب منك «لوغ - أون» أي فتح حساب مجاني لتتمكن من قراءة الموضوع.
كثيرون (وأنا منهم) يحجمون عن ذلك، ففي الحقيقة لا يوجد شيء مجاني، فالحساب المجاني يفتح عليك شلالاً لا ينتهي من الإعلانات، وكثرة الحسابات تجعل أدوات القراءة المستخدمة إلكترونياً عرضة للقرصنة والفيروسات وسرقة البيانات. هذا بدوره يجعل من يتجه بمحرك البحث إلى هذه المواقع ينصرف عنها لتجنب الدفع المالي أو الاشتراك الإجباري.
الاتفاق الجديد مع «غوغل» و«فيسبوك» سيمكن الباحث أو المحب للاستطلاع من قراءة عدد أكبر من المواضيع على هذه المواقع، بلا دفع الأجر أو الاشتراك مجاناً وتلقي سيل من الإعلانات؛ كما أن الاتفاق يعطي أيضاً صاحب الموضوع أو الخبر (أي الناشر) قناة اتصال مفتوحة بحيث يجدد أو يعدل في الموضوع ويظهر التعديل على «غوغل» و«فيسبوك».
ووراء رغبة دور النشر في الاتفاق مع عمالقة التواصل الاجتماعي قدرتها على الانتشار بين المستخدمين، حتى من قبل أن يجبر «كوفيد - 19» المستجد أعداداً أكبر من الناس على التحول إلى الوسائل الإلكترونية ومنصات التواصل.
محرك البحث «غوغل» هو الأشهر، لدرجة أن الاسم تحول إلى فعل يستخدم في جملة مفيدة في معظم اللغات بعبارة: «فلنغوغل هذا الشخص لنعرف تاريخه المهني»، أو «فلنغوغل هذا الموضوع» بمعنى نجري بحثاً عنه.
كما أنه أصبح المحرك الأكثر استعمالاً عالمياً حيث تتجه 92 في المائة من المواصلات - حركة البحث - على الإنترنت عبر «غوغل» مقابل 2.78 في المائة عبر محرك ميكروسوفت - بينغ (رغم احتكار ميكروسوفت لـ81 في المائة من أنظمة التشغيل الإلكترونية مقابل 6 في المائة فقط لـ«غوغل - كروم» ومقابل 11.6 في المائة لنظام «آبل - ماكينتوش» و1.6 في المائة لمحرك البحث «ياهو» (أرقام مؤسسة ديجيتال إينفورميشين لعام 2020).
كما لا يزال البريد الإلكتروني (الإيميل) المجاني لـ«غوغل» (جي - ميل) هو الأكثر استعمالاً بنسبة 43 في المائة في 2020 عالمياً، حيث يستخدمه مليار و800 مليون من مجموع أربعة مليارات مشارك في أنظمة البريد الإلكتروني المختلفة. وكان الرقم قبل وباء «كورونا» 27.8 في المائة على مستوى العالم، مقابل 26 في المائة لـ«ياهو» (أرقام مؤسسة ستاتيستا للإحصائيات للفترة 2019 - 2020).
وأهمية انتشار الإيميل أن البريد الإلكتروني المجاني يأتي ومعه وصلات تستخدم محرك النظام التابع له الإيميل مثل (ياهو ومايكروسوفت وغوغل) للبحث وتوجيه الموضوعات التي تصاحب الرسالة.
الاتفاقية الجديدة وقعتها «فيسبوك» و«غوغل» مع الشركات القابضة لوكالة رويترز للأنباء، و«الديلي تلغراف»، و«الإندبندنت»، و«الفينانشيال تايمز»، و«الإيفننغ ستاندارد»، ومجلة «نيو ستيتسمان»، والأهم دار «ريتش» للطباعة والنشر، وهي ذات أهمية بالغة بالنسبة لاقتصاديات الصحافة في المملكة المتحدة. فبجانب أن «ريتش» هي الشركة القابضة لدور نشر صحف قومية واسعة الانتشار مثل «الديلي ميرور»، و«الديلي ستار»، و«الديلي إكسبريس»، فإنها تمتلك عشرات من الصحف المحلية في المدن والأقاليم البعيدة. هذه الصحف المحلية بالغة الأهمية، فهي جزء من تقاليد عريقة تعود إلى أكثر من 300 عام، وتدخل ضمن دائرة الاقتصاد المحلي للترويج عن المنتجات ووسيلة تواصل بين القراء، لأن معظم هذه المناطق ريفية زراعية أو يتركز نشاطها حول سلعة أو خدمة سائدة كالمناجم أو المصايد أو صناعة سيارات، كما أن الصحف المحلية أداة محاسبة ديمقراطية تراقب أداء الساسة المحليين (أعضاء المجالس البلدية المنتخبين) ونائب الدائرة المحلية في البرلمان. لكن الصحف المحلية مهددة بالإفلاس بسبب المنافسة من مواقع المؤسسات الكبرى مثل «بي بي سي» (المدعومة بأكثر من ستة مليارات دولار) ومن الصحف القومية والعالمية ذات الموارد الضخمة.
ولذلك كانت الصحف المحلية هي الأكثر ترحيباً بالاتفاقية، خاصة مع انخفاض التوزيع بسبب الوباء وإحجام الكثيرين عن شراء الصحف المطبوعة. وبجانب «ريتش» هناك مائة من مؤسسات صحف الأقاليم، خاصة المناطق النائية كالجزر الأسكوتلندية وقرى إمارة ويلز.
وقد يتساءل البعض، لماذا تقبل الصحف والمواقع بفتح الباب للآلاف لقراءة مواضيع مجاناً، بينما يدفع المئات من المشاركين بأجر مدفوع لقراءتها؟ ألا يدفع ذلك أكثرية المشتركين إلى إلغاء الاشتراك وقراءتها مجاناً؟
الدافع طبعاً سعة الانتشار، فبيع مائة سلعة ثمن الواحدة جنيه واحد فقط لمائتي فقير أفضل من بيع سلعتين ثمن الواحدة أربعون جنيهاً لثريين، وتمكين الكثيرين من القراءة المجانية يكون مثل المطعم الذي يقدم «الأورديفر» مجاناً فيسيل لعاب الزبون ويجلس لتناول الوجبة الرئيسية. ويقول كريس تايلور، مدير المبيعات في الـ«ديلي تلغراف» إن زيادة عدد القراء المجانيين سيؤدي إلى زيادة عدد المشتركين بأجر على المدى الطويل، فاشتراك الصحيفة بسيط بجنيهين في الأسبوع (أقل من ثمن فنجان قهوة) ومقابله يتلقى المشترك المواضيع الرئيسية والأخبار الجديدة فور وصولها بالبريد الإلكتروني، ويمكنه البحث في أرشيف الصحيفة. لكن بلا أن توجه «غوغل» الزبون الجديد إلى الموقع سيظل جاهلاً بالمنبر الصحافي والمزايا التي يقدمها للمشترك.