توقيت القاهرة المحلي 13:35:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بريطانيا: وفاة السيدة العجوز

  مصر اليوم -

بريطانيا وفاة السيدة العجوز

بقلم: عادل درويش

حكاية مثارة في الوسائل الصحافية البريطانية التي تستجوب المسؤولين والوزراء، هذا الأسبوع؛ السبب نشر التحقيق حول ابنة الستين شيلا سيليواين، التي ظلت ميتة في شقتها جنوب شرقي لندن، ثلاث سنوات قبل اكتشافها. شوهدت على قيد الحياة آخر مرة بداية 2019 عندما زارت الطبيب شاكية من ضيق في التنفس. آخر إيجار شهري وصل لجمعية الإسكان، صاحبة العقار بتحويل البنك إلكترونياً في أغسطس (آب) من العام نفسه. صعب تقدير تاريخ الوفاة بسبب حالة الجثة، لكن الملابسات من التحقيق ترجح وقوعها في صيف 2019 لأن الجيران، في الخريف، اشتكوا من انبعاث رائحة كريهة من شقتها، ويعتقد الطبيب المحقق أنها نتيجة تفاعلات بداية تحلل الجثة.
ما يثير التساؤلات أن جمعية الإسكان، لم تتصل مباشرة بالسيدة بعد توقف دفع الإيجار؛ وبعد تسعة أشهر (ربيع 2020) قدمت استمارة إلكترونياً، (أونلاين) لمصلحة الرعاية الاجتماعية لدفع الإيجار بديلاً عنها، وبدأت المصلحة الدفع. موظفو شركات الكهرباء، والغاز، وجمعية الإسكان قدموا استمارات قطع الخدمة «أونلاين» بحجة أنهم لم يتلقوا إجابة عند دق جرس الباب صيف 2021. وقطعت الخدمة بأمر قضائي، بلا مقابلة شيلا وجهاً لوجه.
بعد أربعة أشهر، زار ضابطا بوليس المكان، وانصرفا عندما لم يتلقيا إجابة على الباب، واستخلص تقرير البوليس أنه لا مبرر للاعتقاد أن السيدة موضع التساؤل ليست بخير.
قاطنة الشقة أسفل شقة شيلا اشتكت من تساقط الديدان من منافذ أسلاك الكهرباء ببريد إلكتروني لجمعية الإسكان بلا جدوى.
استمر المسلسل المأسوي حتى اكتشفت الجثة بعد اقتحام البوليس الشقة بإذن قضائي.
الملاحظ أن كل التقارير والاتصالات والاتهامات المتبادلة بين الجهات المعنية (جمعية الإسكان، البوليس، شركات الغاز والكهرباء، العيادة الصحية المحلية، مصلحة الرعاية الاجتماعية) تمت كلها، بأحدث الوسائل البيروقراطية، وهي الإيميل (البريد الإلكتروني)، وأحياناً بتسجيلات صوتية لشكاوى الجيران على المسجل الأوتوماتيكي لشركة الإسكان، بلا لقاءات وجهاً لوجه، أو أي تبادلات إنسانية.
وقبل أن يقفز البعض إلى شعارات الصورة النمطية (غير الحقيقية) عن برود المشاعر والعزلة في المجتمعات الأوروبية، فليست المسألة أكثر تعقيداً مما يبدو فحسب، بل تتعلق أساساً بعوامل كالاقتصاد والبيئة المحلية وبيروقراطية أدواتها برامج الكمبيوترات، وأهمها الهندسة المعمارية.
وقبل أن أخوض في الأخيرة، أشدد، كمواطن في المجتمع البريطاني لأكثر من ستة عقود، أنه من أكثر مجتمعات العالم دفئاً وتكافلاً وعملاً للخير. والجيران يتسابقون لتلبية حاجات جيرانهم، خاصة المسنين، والمرضى وذوي الاحتياجات، إذ يقومون بالتسوق أو تنظيف بيوتهم، أو يراعون أطفال الجيران، إذا اضطرت الأم للخروج وغيرها.
التعبيرات الفلكلورية الفكاهية عادة تعكس سلوكيات المجتمعات، ومنها تقارب الجيران في بريطانيا بنكات ثرثرة الجارتين عبر سياج قصير يفصل الحديقتين الخلفيتين، أو الجار وجاره أثناء تنظيف حديقتيهما الأمامية أو غسل سياراتهما.
تأثير عوامل التكنولوجيا الحديثة والهندسة المعمارية، استنبأتها نكتة إنجليزية في ستينات القرن الماضي «من نجا من اللوفتوافا (سلاح الطيران الألماني أثناء الحرب العالمية) سيلحق به المعماريون الحديثون»، كنذير شؤم، حيث تجني اليوم مجتمعات المدن الكبرى، ثمار إنشاءات المهندسين المدنيين السامة في تغير السلوك والهوية.
الهندسة المعمارية، في الأنثروبولوجيا، والسيسيولوجيا، وعند المؤرخين، أحد أهم مكونات الهوية القومية للشعوب، خاصة الأفراد في المدينة حيث تلعب الهندسة البنائية والتخطيط البلدي دوراً محورياً في إدارة حياة الناس يومياً فتصبح مكوناً أساسياً لهوية الأفراد داخل المجموعة، وبالتالي، تشكل مع الاقتصاد المحلي ومع علاقة المواطنين (كمستهلكين ودافعي ضرائب) بالمؤسسات المسؤولة عن الخدمات، وبين بعضهم بعضاً نمطاً للسلوك خاصاً بالمكان. فمثلاً معمار قرى ساحلية لصيادي السمك، يختلف عنه في قرية لعمال المناجم، أو، بلدة توسعت مع المصانع أو أخرى بجانب موانئ، أو ثكنات عسكرية، وكل بدوره يتفاعل مع عوامل أخرى اقتصادية، وسياسة محلية، ليتطور منها سلوك عام للأفراد كجزء من هويتهم المحلية.
الأحياء القديمة بالبيوت الإنجليزية التقليدية بحديقتين خلفية وأمامية يشتريها أفرادها بالتقسيط أو يؤجرها صاحبها لأسر متوسطة الحال، أفرزت مجتمعاً متكافلاً يقيم حفلات الشارع الواحد في الصيف والمناسبات القومية والشعبية، كيوم تتويج الملك تشارلز الثالث الشهر المقبل، حيث ستشهد أحياء بريطانيا عشرات الآلاف من حفلات ومآدب تعد فيها ربات المنازل الوجبة المشتركة لسكان الشارع.
منذ الستينات تضافرت مصالح اقتصادية لمستثمرين أثرت على القرار السياسي في تغير نمط الإسكان، وألحق المعماريون الجدد بالمدن الكلاسيكية ما يفوق دمار اللوفتوافا، وهدمت الكثير من الأحياء بمنازلها التقليدية، وبني بدلاً منها عمارات خرسانية ضخمة الحجم والقبح، والشقق متراصة في الأدوار، يربطها ممر طويل، غالباً بلا نوافذ، فتعطي إحساس الانغلاق وعزلة زنازين السجون. المجمعات السكنية الخرسانية ارتفع فيها معدل الجريمة والعنف وعصابات الشباب والمخدرات. وبدورها، اكتسبت هوية سكانها أبعاداً جديدة، وأصبح سلوكهم «خليني في حالي»، ويغلق الساكن باب شقته على نفسه، عندما يرى عصابات المراهقين والشباب وتحطيمهم للممتلكات العامة في ساحة المجمع السكني.
سكان العمارة التي لم تكتشف فيها جثة شيلا لثلاث سنوات، كانت علاقتهم بجيرانهم ستختلف لو سكنوا في ديار من المعمار القديم، وربما كانت جارتها نادت عليها من الحديقة الخلفية من نافذة المطبخ، أو من نافذة غرفة الجلوس عند إغمائها على المقعد.
المعمار يؤدي إلى تغير أساسي في الهوية، وفي سلوك الأفراد تجاه الآخرين وعلاقتهم ببعضهم بعضاً كجيران.
العوامل الأخرى، البيروقراطية والاقتصادية، أدت إلى استبدال علاقات الجيران بعلاقة الساكن (المستأجر) بصاحب البيت، وفي حالة شيلا ليس هناك شخص يقابلها دورياً وإنما مؤسسة ضخمة ببيروقراطية لا تعرف للسكان وجوهاً، فهم أرقام على الورق، أو في برنامج كمبيوتر يتابع دفعهم الإيجار ورسائل إلكترونية عن الإصلاحات. «جمعيات الإسكان» أو ما يعرف في بريطانيا بـ«هاوسينغ أسوسييشنز» توسعت كمؤسسات خيرية في القرن التاسع عشر لتوفير مساكن مجانية أو بإيجار بسيط للفقراء والطبقات العاملة، وتطورت بدعم من البلديات المحلية ومصالح حكومية مختلفة في العقود الأخيرة لإسكان ذوي الدخل المحدود. إدارات الجمعيات - وكان كل منها مسؤولاً عن أقل من مائتي مستأجر، جعلتها البيروقراطية المدعومة إلكترونياً بالذكاء الصناعي ترعى أكثر من ألف، وجعلت العلاقة بين الساكن وبين محل الإقامة، المعماري والاجتماعي، بجانب العزلة في مكعب الشقة المحاصر، وصاحب البيت والجيران، مثل الممر الضيق بين الشقق. فقط عبر الاتصال الإلكتروني وليس الإنساني وجهاً لوجه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بريطانيا وفاة السيدة العجوز بريطانيا وفاة السيدة العجوز



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon