بقلم : عادل درويش
توقف «رقاص» الساعة عن الاهتزاز، في قول ميشيل بارنييه، المفاوض الأوروبي، معلناً التوصل إلى صفقة تجارية مع المملكة المتحدة، عشية عطلة عيد الميلاد.
رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، استعارت شعر شكسبير «الوداع حزن حلو الطعم»، عن الفراق عن بريطانيا، وأعقبته ببيت شعر توماس إليوت: «... ومن النهاية تكون البداية من جديد».
رئيس الوزراء بوريس جونسون، أعلن، مغتبطاً، اكتمال خبز الفطيرة التي وعد بها الناخب «وغنية بالأسماك».
التشبيهات بدلالات رمزية تحمل رسائل للطرف الآخر، وتشير إلى نواياه، وأيضاً رسائل إلى أطراف أخرى ترتبط مصالحها، سلباً أو إيجاباً، بالصفقة التي تصل قيمتها 660 مليار جنيه (895 مليار دولار).
تعبير «إيقاف رقاص الساعة»، بالإنجليزية، يختلف عن مثيله بالعربية، ففي الأولى لا يعني توقف الزمن أو الساعة، وإنما توقف العد التنازلي نحو نهاية غير محمودة العواقب. والرسالة الرمزية هنا للجميع، ربما اعتراف من المفاوض بخطورة الاستراتيجية التي اتبعها الأوروبيون (راجع مقالة الأسبوع الماضي)، فغيروها ببراغماتية ناضجة تضع المصالح المشتركة أولاً بالتخلي عن سياسة معاقبة بريطانيا، والتفكير بعقلية تجارية حفاظاً على مصالح بلدان يروّج اقتصادها الوجود البريطاني مالياً وديموغرافياً (كإسبانيا، والبرتغال، واليونان وقبرص، حيث يمتلك البريطانيون عقارات، ومساكن تقاعد واستثمارات).
السيدة فون ديرلاين، البلجيكية المولد لأب كان يعمل في المفوضية الأوروبية، الألمانية التعليم والجنسية، ربما تريد أن تعلم من لا يعلم بعلاقتها ببريطانيا، واحترامها لثقافتها وما قدمته بريطانيا للعالم ولأوروبا بالتحديد. لجأت إلى بريطانيا مع أسرتها وهي طالبة في التاسعة عشرة للاختباء في لندن (حيث درست في كلية لندن للاقتصاد) من حركة الجيش الأحمر الشيوعية التي هددت أسرتها بالاغتيال، وكانت الحركة، المعروفة بعصابة «البادرماينهوف» اغتالت واختطفت الساسة ورجال الأعمال.
وقالت إنها «عاشت حياة لندن أكثر مما درست فيها»، في مقابلتها مع «الديلي تلغراف» في يوليو (تموز) العام الماضي، واعتبرت عاصمة الضباب «قدوة العالم للحداثة، والانطلاق، والتمتع بالحياة، وحرية التجربة». وأضافت أن لندن منحتها موهبة «تحرير طاقتها الداخلية التي تمكنها من الاستمرار».
أبواها من الجيل الذي يعرف ويقدر دور بريطانيا وتضحية شعبها في الحرب العالمية الثانية لإنقاذ أوروبا والعالم من شرور النازية والفاشية. ولإدراكها لثراء الأدب الإنجليزي وما قدمه للإنسانية تعمدت الاقتباس من مسرحية «روميو وجولييت»، المشهد الشهير من الشرفة، والعاشقان الصغيران أدركا حبهما لبعضهما البعض، لكن حان وقت الافتراق، وعودة كل منهما إلى منزله (ولأسرتيهما الخصمين المتعاركين لأجيال)، لكنه افتراق بأمل لقاء، وروميو يرسل طلب الزواج لجولييت في اليوم التالي، أي ليس قطيعة نهائية كاملة.
أما الاقتباس الثاني من الشاعر إليوت، فكان أكثر ذكاءً، لارتباطه بالبعد الأميركي عبر الأطلسي لبريطانيا؛ فلا يمكن لأوروبا التوصل لعلاقة مثمرة مع بريطانيا من دون تفهم ارتباطها التاريخي والثقافي والأمني مع أميركا. المدام فون ديرلاين قضت أربعة أعوام (1992 - 1996) في ستانفورد في كاليفورنيا عندما كان زوجها، هيكو فون ديرلاين، أستاذاً في كلية الطب، في الجامعة الأميركية الشهيرة. وأورسولا نفسها طبيبة متخرجة من هانوفر بجانب دراستها للاقتصاد.
الاتصال الشخصي والسيكولوجية الفردية في السياسة الدولية كثيراً ما يغيران مسار التاريخ. والاقتباس من إليوت، كان رسالة للبريطانيين، ولجونسون بالذات، فقد لعبت مكالماتهم التليفونية العديدة على مدار أسبوعين دوراً مهماً في التوصل إلى الصفقة. إليوت (1888 - 1965) أميركي المولد ثم أصبح شاعراً بريطانياً (أشهر قصائده بالإنجليزية «الأرض الخراب»)، فقد درس في أكسفورد بعد أن تخرج من هارفارد ونشر أعمالاً في أميركا وعاش فترة في باريس. رمزية اختيار الشاعر لها دلالتها، والقصيدة، عندما نشرت في 1938، فسرها النقاد كتعبير عن حاجة القادة والزعماء لاحتواء التناقضات، وقبول المفارقات، للتقدم وعدم التقيد بالملموس المادي فقط في تفهم تعقيدات المواقف التي تؤدي للأزمات.
اختيار موفق للمناسبة وتوجيه الرسالة إلى أن الباب مفتوح لاتفاقيات أخرى وتقارب أكثر، بين المملكة المتحدة والشعوب الأوروبية، ونهاية العلاقة القديمة لا تعني الخصومة، بل تبشر ببداية جديدة في تعاون المصالح المشتركة.
ورغم أن الاتفاقية تعني إنهاء الخلافات بقبول أكثر من ثلثي المطالب البريطانية، وثلث المطالب الأوروبية، فإن جونسون، رغم ما مر به من أسوأ عام يمكن أن يواجهه زعيم بريطاني، لم يدق طبول الانتصار في كلمته إلى الأمة مساء الخميس، بل أشار إلى الامتداد والتواصل الثقافي والحضاري والتاريخي بجانب الجيولوجي بين بريطانيا وأوروبا.
الزعيم البريطاني جونسون، وبراعته في النكتة وخفة ظله من أهم أسباب شعبيته، أشار إلى السمك، في نكتة غير مباشرة موجهة إلى المفاوض بارنيه، الذي أثار خلافات المصايد (غالباً بتعليمات من حليفه إيمانويل ماكرون، فقد كان بارنيه وزيراً للزراعة والثروة السمكية في فرنسا). الإشارة واضحة إلى ميل ميزان الصفقة لصالح لندن. بريطانيا الآن، كبلد مستقل خارج الاتحاد الأوروبي تمتد مياهها الإقليمية الاقتصادية إلى مائتي ميل بحري (المياه السياسية 12 ميلاً فقط). والسماكة قيمتها مليارا دولار (أو 0.12 في المائة من الاقتصاد البريطاني). بريطانيا قدمت للاتحاد الأوروبي تنازلاً بفترة انتقالية خمسة أعوام ونصف العام فقط (بارنيه أراد عشر سنوات وبريطانيا ثلاث)، وفي المقابل حصلت على مكسب أكبر في صناعات السيارات التي توظف 864 ألف شخص وتساهم في الاقتصاد بما قيمته 108 مليارات دولار، وتشكل 13 في المائة من صادرات بريطانيا. أوروبا أرادت فرض رسوم جمركية (تعرف بالمصدر الثالث) على أي أجزاء في السيارات مصنعة خارج بريطانيا أو الاتحاد الأوروبي، وهي استثناء 60 في المائة من الأجزاء المستوردة، لتظل في اتفاقية تبادل السلع بلا تعريفات جمركية.
ربما الإنجاز الأكبر والأهم بالنسبة للمفاوض البريطاني كان في استعادة السيادة، فبجانب عدم احتكار المحكمة الأوروبية كحَكَم لفض أي خلاف حول الاتفاقيات، فلبريطانيا حرية توقيع اتفاقيات تجارة ثنائية. ففي الفترة الانتقالية (من 31 يناير/ كانون الثاني هذا العام وحتى الأسبوع الماضي) وقعت وزارة التجارة الخارجية 57 اتفاقاً قيمتها 226 مليار دولار.
الأهم نجاح المفاوض البريطاني في إبقاء حركة السوق والتجارة على ما هي عليه اليوم، ما انعكس في ارتفاع قيمة الجنيه. البرلمان بمجلسيه دعي للانعقاد استثنائياً الأربعاء، ومن المتوقع الموافقة على الصفقة بعد أن وعد زعيم المعارضة، السير كيير ستارمر بتصديق حزب العمال عليها.