بقلم - عادل درويش
مشاهدة الحلقات الأخيرة في «نتفليكس»، متضمنة ادعاءات الأمير هاري وزوجته الممثلة الأميركية ميغان، بينما البلاد تمر بوقت عصيب، ذكرتني بمقطع شكسبيري: «بردت عواطف الحب، وانقطعت روابط الصداقة، انقسم الشقيقان، في المدن تمردات، في البلدان اضطرابات، في القصور تحاك المؤامرات، والرابطة بين الأب والابن تتمزق»، من مسرحية الملك لير (1607)، وهو شخصية تخيلية، وإن كانت بقية الشخصيات بأسماء زعماء إقطاعيات إنجليزية مألوفة لجمهور مطلع القرن السابع العشر، اختارها ويليام شكسبير (1564 - 1616) وهو في الثالثة والأربعين، كإسقاطات واضحة من ماضٍ مليء بالفلكلور الممزوج بأحداث الواقع، عن الصراع داخل البلاط، ودور الساسة.
المسرحية عرضت في السنة الرابعة من حكم جيمس الأول (1566 - 1625) الذي استمر من 1603 إلى وفاته 1625.
جيمس، أول ملك للمملكة المتحدة، كان جيمس السادس لإسكتلندا (1557 - 1603) وعمره عام واحد، تحت رعاية والدته، ماري ستيوارت ملكة الاسكتلنديين (1542 - 1587)، التي خاضت صراعاً ضد إليزابيث الأولى (1533 - 1603) لكن الملكتين القويتين ابنتي العمومة من الدرجة الثانية لم تتقابلا أبداً، وقبض على ماري بأوامر إليزابيث، وحوكمت بتهمة التآمر في 1856، وأعدمت في 1587.
إليزابيث، بدورها ليلة وفاتها أنهت الصراع بتوحيد المملكتين بمنح التاج إلى جيمس ابن ماري، أقرب وريث للعرش، فلم يكن لها أولاد.
وقتها، كاليوم، لخصتها عبارة شكسبير: «البلاد تواجه اضطرابات، وإضرابات، وصراعات سياسية»، بينما أصغر أبناء الملك، الأمير هاري، يستخدم وسائل الاتصال والترفيه في صراع بدأه مع البلاط.
وسائل الترفيه الفني في العصر الإليزابيثي كانت محدودة، والراقية منها كالطرب الموسيقي، اقتصرت على الأرستقراطيين، فكان المسرح الوسيلة الوحيدة للتثقيف والنقدين الاجتماعي والسياسي عبر الترفيه، خصوصاً مسرحيات شكسبير، وكريستوفر مارلو (1564 - 1593)، وتوماس ميديلتون (1579 - 1629)، وبنيامين جونسون (1572 - 1637). ويمكن تشبيهها بدور الدراما التسجيلية اليوم، الفارق هو قدرة التكنولوجيا الإلكترونية الحديثة على التزييف، وتشويه التاريخ، مستغلة الكسل الذهني للأجيال الحديثة وتصديقها، عبر عواطفها، لما تشاهده على الشاشة.
بلاط جيمس الأول كان يوجه الصحافة ووسائل التواصل المكتوبة، ومعظمها يخاطب الطبقات المتعلمة؛ ولذا كان المسرح وسيلة درامية جماهيرية لاستخدام شخصيات ومسرحيات التاريخ للالتفاف حول سيطرة القصر.
جيمس تميز عصره بالتطوير المتسارع (كترجمة الكتب المقدسة والإنجيل من اللاتينية إلى الإنجليزية، لغة الشعب اليومية، لإنهاء احتكار الكهنوت لتفسير الدين للعامة)، ودخل في صراعات وخلافات مع البرلمان، ومع الأصوليين الدينيين الذين رأوا في إصلاحاته تهديداً لنفوذهم.
وحاولت مجموعة من الكاثوليك اغتياله بنسف البرلمان، فيما يعرف بـ«مؤامرة براميل البارود» في 1605، وأشهر زعماء المتآمرين غاي فوكس (1570 - 1606)... يحتفل الإنجليز كل عام في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) بـ«يوم غاي فوكس».
جمهور المسرح الإليزابيثي كان يعي كل ذلك ويفهم الإسقاطات في الروايات، كصراع ماري وإليزابيث، ورغم ذلك سمى جيمس كبرى بناته إليزابيث، وجعل شكسبير من هذا مشهداً مسرحياً وإسقاطاً احتفالياً بزفاف إليزابيث في مسرحية العاصفة (1611). أو مثلاً مسرحية «هنري الرابع»، وهي عبارة عن مسرحيتين مكملتين لبعضهما أتمهما شكسبير في 1597، شخصية «الابن هال» في البداية، يفضل اللهو والعبث على متطلبات جادة كأداء دور ولي العهد والقيام بواجباته الملكية.
في العصر الفيكتوري (1837 - 1901)، لم تكن الصحافة مجرد أداة سياسية ضد الخصوم أو للترويج قبل الانتخابات، بل بداية وعي البلاط بدورها، وكان للقصر دور أكبر في توجيه الحياة السياسية وسن القوانين بتعديل فقرات فيها، عما هو عليه خلال المائة عام الأخيرة.
اهتم البلاط بالصحافة لتجاوز «الفلتر» الذي يضعه الساسة (حكومة ومعارضة) بين مؤسسة التاج والجماهير؛ لتوظيف شعبية الجالس على العرش لترويج ما يرغبه الساسة، ولا غرابة أن تُسمى مناسبة افتتاح الدولة الرسمي للدورة البرلمانية وإعلان الحكومة برنامجها السياسي «خطبة الملك».
زواج فيكتوريا وألبرت في 1840 وقصة حبهما الرومانسية، وإدخالهما جو الاحتفالات، وإعلاء قيم الأسرة والمثل العليا نموذجاً للوطنية، كانت في قمة اهتمام الصحافة، واستمر ذلك إلى ثلاثينات القرن العشرين. ومن أمثلة الدراما مثلاً قصة غرام إدوارد الثامن (1894 - 1972) والمطلقة الأميركية واليس سيمبسون (1896 - 1986)، وتنازله عن العرش بعد أقل من عام إلى أخيه جورج السادس (1895 - 1952) ليتزوجها.
أخبارهما كانت تنشر في أميركا، موطن سيمبسون، وبلدان أوروبا، بينما ظلت الصحافة البريطانية حذرة في تناولها، والتزمت فقط بمعلومات «وثيقة» من القصر والمتحدث الرسمي للحكومة... أمر يصعب تكراره اليوم مع انتشار الصحافة الإلكترونية العابرة للقارات.
لكن سوابق دور الصحافة تعود للقرن الـ18 عندما بدأت «التايمز» تقليد صفحة الأحداث والمناسبات الملكية، ولعب الكاريكاتير، خصوصاً ثورة ويليام هوجارث (1697 - 1764)، دورها، وعلى الرغم من أن التركيز كان على الساسة، فإن البلاط أيضاً استخدمها، وعكس الكاريكاتير الصراعات داخل المؤسسة، خصوصاً أثناء مرض الملك جورج الثالث، (1738 - 1820)، مرض عضوي يسبب اضطراباً عقلياً.
ابنه أمير ويلز، جورج فريدريك (1762 - 1830)، جورج الرابع منذ 1820، وزوجته كارولين (1768 - 1821) دوقة برونسويك، كان لكل منهما جهاز دعايته، يستخدم الصحافة لتسريب شائعات ضد بعضهما البعض. خلافهما يشبه استغلال الليدي ديانا سبنسر (1961 - 1997) أميرة ويلز، الصحافة الشعبية، بعد خلافها مع تشارلز عندما كان أمير ويلز (1969 - 2021).
ديانا نسيت أن الصحافة وحش لا يمكن ترويضه، خصوصاً عندما تكون وسيلة التواصل ملتوية، وكررت إعلان اختفائها عن الأنظار، بينما تتصل سراً بمجموعة خاصة من الصحافيين، والكل يريد صورها باعتبار ذلك سبقاً، مما فتح الباب لمرتزقة التصوير المعروفين بـ«الباباراتزي» (بطرق لا أخلاقية وغير مهنية لالتقاط صور تباع لمن يدفع أكثر).
طاردوها إلى الحادث المميت في نفق في باريس. وهو ما لم ينسه الأمير هاري، لكن زوجته، بمهارتها التمثيلية في التأثير عبر الكاميرا، ربما ساعدها في توجيه زوجها (ميغان وهاري مثل ديانا، تركا الواجبات الملكية من أجل «الخصوصية»، بينما يستغلان أوسع الوسائل الصحفية انتشاراً).
جمهور شكسبير كان مقتصراً على المسرح الإنجليزي، لكن وسائل مثل «نتفليكس» نقلت الدراما، بتفسيرها غير الدقيق، وأحياناً المغالط، لأحداث التاريخ إلى جمهور العالم كله.