توقيت القاهرة المحلي 19:22:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أسطورة القديس جورج وبوريس جونسون

  مصر اليوم -

أسطورة القديس جورج وبوريس جونسون

بقلم - عادل درويش

صعود وسقوط بوريس جونسون كزعيم شعبي والرئيس السادس والخمسين لحكومة بريطانيا (2019 - 2022)، ودراما نهايته (باستقالة ستين من الوزراء وإداريي الحزب الحاكم في يومين)، ذكّرتني بسان جورج، القديس الرسمي لإنجلترا في الفلكلور الإنجليزي. في الأسطورة الشعبية يطعم أهل البلدة التنين المخيف خروفاً كلما جاع، وبعد نفاد الخراف بدأوا يطعمونه البنات، فلما جاء دور الأميرة، تقدم الفارس جورج وبعد معركة طويلة قتل التنين ونجت الأميرة والبلد.
السؤال بالتفكير النقدي: هل هناك وظيفة يشغلها جورج، أو حاجة إلى وجوده بعد زوال خطر التنين؟ ماذا بعد الامتنان بتقديسه ورسمه يصرع التنين على العَلم والأيقونات وزجاج نوافذ الكنائس؟ سؤال يتكرر عبر القرون بالتغيرات الكبيرة التي تُحوّل مسار التاريخ وتعيد رسم الخرائط، ثم لا ينجح القائد الذي حقق النصر في الحرب أو الذي تزعم الحملة في إدارة شؤون البلاد أو تنفيذ الأهداف التي طرحها برنامجه الثوري.
الزعيم البريطاني الأشهر وقائد العالم الحر ومنقذه من بربرية الفاشية في الحرب العالمية الثانية السير ونستون تشرشل (1874 - 1965) رفضه الناخب البريطاني بعد أن قضى على تنين النازية، واختار حكومة عمالية (1945 - 1951) بزعامة كليمنت أتلي (1883 - 1967).
جاذبية جونسون وشعبيته كانت في ثوريته، في مظهره غير المهندم كشخصية خفيفة الظل سريعة النكتة كصحافي متمرد أو مخبر خصوصي لا يلتزم باللوائح لتحقيق العدالة الشعبية (غالباً لا قانونية) يتعاطف معه المتفرجون في أفلام الأبيض والأسود، في مسعاه لنصرة الإنسان البسيط المنسحق تحت أقدام تنين البيروقراطية ونظام اقتصادي وإداري يراه غير عادل.
ورغم أن جونسون (انتُخب أول مرة لمجلس العموم في 2001) مثقف كبير ومؤلف كتب ودارس للكلاسيكيات وكثيراً ما يكسب مناظرات بتوظيف أمثال حكيمة وأشعار باللاتينية، خريج مدرسة إيتون الراقية وجامعة أكسفورد العريقة، فإن رجل الشارع وربة المنزل لا يريانه ممثلاً لصفوة الطبقة العليا؛ خفيف الدم، بسيطاً شعبياً، ولا أذكر في أكثر من خمسة عقود من العمل الصحافي أن الشعب والصحافة ورجل الشارع يعرف زعيماً آخر، ويناديه باسمه الأول «بوريس» فقط، بينما الراحلة مارغريت ثاتشر (1925 - 2013) التي سماها الناس والصحافة «ماغي» في حضورها ناديناها كصحافيين بـ«المسز ثاتشر».
صفات وعوامل أدت لانتخابه عمدة لندن مرتين (2008 و2012)، وفترة عموديته حتى 2016 كانت الاستثناء؛ فمعظم ناخبي العاصمة من اليسار الليبرالي، ينتخبون يسارياً اشتراكياً للمنصب منذ ظهوره في 2000 حتى عندما كان هناك مجلس لبلدية لندن (قبل 1986 عندما نقلت سلطاته إلى 32 بلدية محلية منتخبة). فقد وجد الناخب في بوريس سان - جورج اللندني لدحر تنين عمودية الراديكالي اليساري كين ليفنغستون (2000 - 2008) الذي أفسد الميزانية وزاد من الضرائب وتعاون مع أنظمة خارجية راديكالية يتوجس الناخب اللندني والبريطاني منها.
ومن السياسة المحلية اللندنية قفز جونسون إلى السياسة القومية في حملة غيّرت مسار التاريخ بلعبه دوره السبارتاكوسي المفضل: قيادة تمرد الفئات التي رأت نفسها عبيداً يعانون من تسلط الدولة المركزية، والمؤسسة الليبرالية المسيطرة، صحافة يسارية تتجاهل همومهم، وبيروقراطية بروكسل في حملة «بريكست» الناجحة لقتال تنين آخر في الاتحاد الأوروبي؛ وانتهت الحملة بالسقوط السياسي لزميله في الدراسة ديفيد كاميرون كرئيس وزراء بعد أن راهن بمصير حكومته (2010 - 2016) على إبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
جونسون أُعيد انتخابه لمجلس العموم للمرة الرابعة (بزيادة في الأصوات) في 2017 بينما خسر المحافظون ثلاثة عشر مقعداً بزعامة تريزا ماي (2016 - 2019)، مؤكداً شعبيته (جونسون) وقبول الناخب لبرامجه المطبقة في لندن. تقدمية عملية في الخدمات بينما الجوهر السياسي أقرب للقيم والمبادئ التشرشلية لفلسفة المحافظين: حرية الفرد وحقه في الاختيار أهم من تسلط الدول، حرية التعبير والديمقراطية وحرية الصحافة، وتقليص دور مؤسسات الدولة وتقليص حجم وميزانية أجهزتها وتدخلها في خيارات الفرد، وتخفيض الضرائب ودعم فرص القطاع الخاص والاستثمارات الفردية -وهي كلها عكس تسلط وسيطرة بروكسل التي دفعت بالأغلبية إلى التصويت لـ«بريكست».
وعندما تعثر مشروع «بريكست» في أثناء حكومة تيريزا ماي بسبب تضافر مؤسسات الدولة العميقة وأغلبية من نواب البرلمان من كل الأحزاب لا يعكسون رغبة ناخبي دوائرهم، مع مؤسسات صناعة الرأي العام في محاولة عكس الإرادة الشعبية وإبقاء بريطانيا في حظيرة الاتحاد الأوروبي، استل جونسون سيف القديس جورج ودرعه ليحارب التنين الذي رفض الموت برمح استفتاء «بريكست».
عندما فقدت تيريزا ماي ثقة نواب المحافظين واختار الحزب جونسون زعيماً في المؤتمر السنوي في 2019، واجه تحديات برلمان ومؤسسة حاكمة وصحافة تعرقل تنفيذ إرادة الأمة في استفتاء «بريكست»، فوضع شعبيته محل الاختبار بالدعوة إلى انتخابات عامة، اكتسحها المحافظون بزعامته بالحصول على أكبر عدد من المقاعد في ثلاثة عقود. بل تمكن برنامج المحافظين الذي صاغه الجناح الجونسوني في الحزب من اقتناص قرابة خمسين مقعداً في عقر دار حزب العمال في مناطق الطبقة العاملة في الشمال التي ارتفعت فيها البطالة وتدهورت أحوالها الاقتصادية والاجتماعية بسياسات بدأت في أثناء حكم العمال (1997 - 2010) وزعامته كانت تشبه الصفوة المنغلقة علي نفسها في لندن الثرية، والتي رأتها الطبقات الشعبية تنيناً لا يقدر عليه إلا بطلهم بوريس.
هذه الحسابات كان يجب أن تقنع جونسون بالالتزام بالسياسة الثاتشرية بدلاً عن الابتعاد عن فلسفة المحافظين بسياسات أثقلت الاقتصاد بأعباء التزامات آيديولوجيات يسارية أدت إلى إبعاد التيار اليميني وقواعد المحافظين الأساسية في الريف، مثل ضرائب البيئة لتمويل المشاريع الخضراء غير الإنتاجية. ورغم نجاح حكومة جونسون في نحر التنين بتحقيق «بريكست»، وكان أداؤها الأفضل بين الديمقراطيات الغربية مع وباء «كوفيد»، ومواجهة الأعباء الاقتصادية للإغلاق الصحي وقيادة التحالف في حرب أوكرانيا، فإن سبب سقوطه لم يكن الأداء السياسي أو برنامجه الاقتصادي وإنما ما بدا كأسباب أخلاقية كانت هدية لصحافة أغلبها معادٍ لجونسون والمحافظين ولمشروع «بريكست». فبوريس ومستشاروه لم يتعلموا درس أن محاولة تغطية الأخطاء بالتهرب من محاسبة الصحافة بدلاً عن الاعتراف الفوري والاعتذار أدت إلى سقوط الكثير من ساسة ناجحين سبقوه.
ومثلما قال السياسي المفكر والكاتب المحافظ إينوك باول (1912 - 1998): «السلك المهني لرجل السياسة ينتهي دائماً بالفشل».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أسطورة القديس جورج وبوريس جونسون أسطورة القديس جورج وبوريس جونسون



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon