توقيت القاهرة المحلي 23:40:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أسطورة القديس جورج وبوريس جونسون

  مصر اليوم -

أسطورة القديس جورج وبوريس جونسون

بقلم - عادل درويش

صعود وسقوط بوريس جونسون كزعيم شعبي والرئيس السادس والخمسين لحكومة بريطانيا (2019 - 2022)، ودراما نهايته (باستقالة ستين من الوزراء وإداريي الحزب الحاكم في يومين)، ذكّرتني بسان جورج، القديس الرسمي لإنجلترا في الفلكلور الإنجليزي. في الأسطورة الشعبية يطعم أهل البلدة التنين المخيف خروفاً كلما جاع، وبعد نفاد الخراف بدأوا يطعمونه البنات، فلما جاء دور الأميرة، تقدم الفارس جورج وبعد معركة طويلة قتل التنين ونجت الأميرة والبلد.
السؤال بالتفكير النقدي: هل هناك وظيفة يشغلها جورج، أو حاجة إلى وجوده بعد زوال خطر التنين؟ ماذا بعد الامتنان بتقديسه ورسمه يصرع التنين على العَلم والأيقونات وزجاج نوافذ الكنائس؟ سؤال يتكرر عبر القرون بالتغيرات الكبيرة التي تُحوّل مسار التاريخ وتعيد رسم الخرائط، ثم لا ينجح القائد الذي حقق النصر في الحرب أو الذي تزعم الحملة في إدارة شؤون البلاد أو تنفيذ الأهداف التي طرحها برنامجه الثوري.
الزعيم البريطاني الأشهر وقائد العالم الحر ومنقذه من بربرية الفاشية في الحرب العالمية الثانية السير ونستون تشرشل (1874 - 1965) رفضه الناخب البريطاني بعد أن قضى على تنين النازية، واختار حكومة عمالية (1945 - 1951) بزعامة كليمنت أتلي (1883 - 1967).
جاذبية جونسون وشعبيته كانت في ثوريته، في مظهره غير المهندم كشخصية خفيفة الظل سريعة النكتة كصحافي متمرد أو مخبر خصوصي لا يلتزم باللوائح لتحقيق العدالة الشعبية (غالباً لا قانونية) يتعاطف معه المتفرجون في أفلام الأبيض والأسود، في مسعاه لنصرة الإنسان البسيط المنسحق تحت أقدام تنين البيروقراطية ونظام اقتصادي وإداري يراه غير عادل.
ورغم أن جونسون (انتُخب أول مرة لمجلس العموم في 2001) مثقف كبير ومؤلف كتب ودارس للكلاسيكيات وكثيراً ما يكسب مناظرات بتوظيف أمثال حكيمة وأشعار باللاتينية، خريج مدرسة إيتون الراقية وجامعة أكسفورد العريقة، فإن رجل الشارع وربة المنزل لا يريانه ممثلاً لصفوة الطبقة العليا؛ خفيف الدم، بسيطاً شعبياً، ولا أذكر في أكثر من خمسة عقود من العمل الصحافي أن الشعب والصحافة ورجل الشارع يعرف زعيماً آخر، ويناديه باسمه الأول «بوريس» فقط، بينما الراحلة مارغريت ثاتشر (1925 - 2013) التي سماها الناس والصحافة «ماغي» في حضورها ناديناها كصحافيين بـ«المسز ثاتشر».
صفات وعوامل أدت لانتخابه عمدة لندن مرتين (2008 و2012)، وفترة عموديته حتى 2016 كانت الاستثناء؛ فمعظم ناخبي العاصمة من اليسار الليبرالي، ينتخبون يسارياً اشتراكياً للمنصب منذ ظهوره في 2000 حتى عندما كان هناك مجلس لبلدية لندن (قبل 1986 عندما نقلت سلطاته إلى 32 بلدية محلية منتخبة). فقد وجد الناخب في بوريس سان - جورج اللندني لدحر تنين عمودية الراديكالي اليساري كين ليفنغستون (2000 - 2008) الذي أفسد الميزانية وزاد من الضرائب وتعاون مع أنظمة خارجية راديكالية يتوجس الناخب اللندني والبريطاني منها.
ومن السياسة المحلية اللندنية قفز جونسون إلى السياسة القومية في حملة غيّرت مسار التاريخ بلعبه دوره السبارتاكوسي المفضل: قيادة تمرد الفئات التي رأت نفسها عبيداً يعانون من تسلط الدولة المركزية، والمؤسسة الليبرالية المسيطرة، صحافة يسارية تتجاهل همومهم، وبيروقراطية بروكسل في حملة «بريكست» الناجحة لقتال تنين آخر في الاتحاد الأوروبي؛ وانتهت الحملة بالسقوط السياسي لزميله في الدراسة ديفيد كاميرون كرئيس وزراء بعد أن راهن بمصير حكومته (2010 - 2016) على إبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
جونسون أُعيد انتخابه لمجلس العموم للمرة الرابعة (بزيادة في الأصوات) في 2017 بينما خسر المحافظون ثلاثة عشر مقعداً بزعامة تريزا ماي (2016 - 2019)، مؤكداً شعبيته (جونسون) وقبول الناخب لبرامجه المطبقة في لندن. تقدمية عملية في الخدمات بينما الجوهر السياسي أقرب للقيم والمبادئ التشرشلية لفلسفة المحافظين: حرية الفرد وحقه في الاختيار أهم من تسلط الدول، حرية التعبير والديمقراطية وحرية الصحافة، وتقليص دور مؤسسات الدولة وتقليص حجم وميزانية أجهزتها وتدخلها في خيارات الفرد، وتخفيض الضرائب ودعم فرص القطاع الخاص والاستثمارات الفردية -وهي كلها عكس تسلط وسيطرة بروكسل التي دفعت بالأغلبية إلى التصويت لـ«بريكست».
وعندما تعثر مشروع «بريكست» في أثناء حكومة تيريزا ماي بسبب تضافر مؤسسات الدولة العميقة وأغلبية من نواب البرلمان من كل الأحزاب لا يعكسون رغبة ناخبي دوائرهم، مع مؤسسات صناعة الرأي العام في محاولة عكس الإرادة الشعبية وإبقاء بريطانيا في حظيرة الاتحاد الأوروبي، استل جونسون سيف القديس جورج ودرعه ليحارب التنين الذي رفض الموت برمح استفتاء «بريكست».
عندما فقدت تيريزا ماي ثقة نواب المحافظين واختار الحزب جونسون زعيماً في المؤتمر السنوي في 2019، واجه تحديات برلمان ومؤسسة حاكمة وصحافة تعرقل تنفيذ إرادة الأمة في استفتاء «بريكست»، فوضع شعبيته محل الاختبار بالدعوة إلى انتخابات عامة، اكتسحها المحافظون بزعامته بالحصول على أكبر عدد من المقاعد في ثلاثة عقود. بل تمكن برنامج المحافظين الذي صاغه الجناح الجونسوني في الحزب من اقتناص قرابة خمسين مقعداً في عقر دار حزب العمال في مناطق الطبقة العاملة في الشمال التي ارتفعت فيها البطالة وتدهورت أحوالها الاقتصادية والاجتماعية بسياسات بدأت في أثناء حكم العمال (1997 - 2010) وزعامته كانت تشبه الصفوة المنغلقة علي نفسها في لندن الثرية، والتي رأتها الطبقات الشعبية تنيناً لا يقدر عليه إلا بطلهم بوريس.
هذه الحسابات كان يجب أن تقنع جونسون بالالتزام بالسياسة الثاتشرية بدلاً عن الابتعاد عن فلسفة المحافظين بسياسات أثقلت الاقتصاد بأعباء التزامات آيديولوجيات يسارية أدت إلى إبعاد التيار اليميني وقواعد المحافظين الأساسية في الريف، مثل ضرائب البيئة لتمويل المشاريع الخضراء غير الإنتاجية. ورغم نجاح حكومة جونسون في نحر التنين بتحقيق «بريكست»، وكان أداؤها الأفضل بين الديمقراطيات الغربية مع وباء «كوفيد»، ومواجهة الأعباء الاقتصادية للإغلاق الصحي وقيادة التحالف في حرب أوكرانيا، فإن سبب سقوطه لم يكن الأداء السياسي أو برنامجه الاقتصادي وإنما ما بدا كأسباب أخلاقية كانت هدية لصحافة أغلبها معادٍ لجونسون والمحافظين ولمشروع «بريكست». فبوريس ومستشاروه لم يتعلموا درس أن محاولة تغطية الأخطاء بالتهرب من محاسبة الصحافة بدلاً عن الاعتراف الفوري والاعتذار أدت إلى سقوط الكثير من ساسة ناجحين سبقوه.
ومثلما قال السياسي المفكر والكاتب المحافظ إينوك باول (1912 - 1998): «السلك المهني لرجل السياسة ينتهي دائماً بالفشل».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أسطورة القديس جورج وبوريس جونسون أسطورة القديس جورج وبوريس جونسون



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة
  مصر اليوم - حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:50 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض
  مصر اليوم - منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها

GMT 08:54 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

نادية عمارة تحذر الأزواج من مشاهدة الأفلام الإباحية

GMT 00:03 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

كيت ميدلتون ترسل رسالة لنجمة هندية بعد شفائها من السرطان

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon