بقلم: عادل درويش
«عن موضوع الفول واللحمة؛ صرح مصدر قال مسؤول؛ إن الطب اتقدم جداً؛ والدكتور محسن بيقول إن الشعب المصري خصوصاً من مصلحته يقرقش فول...»...
تذكرت أغنية الراحل الشيخ إمام عيسى (1918 - 1995)، الأزهري الضرير الذي ارتزق بتلاوة القرآن والغناء.
«فنان الشعب المصري»؛ لقب منحته الجماهير لا الحكومات المتعاقبة التي كررت إيداعه السجن، ورفيق كفاحه الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم (1929 - 2013).
ما ذكرني بالأغنية مطالبة لوبي البيئة بعدم أكل اللحوم بعد لحاق الأبقار بطابور المتهمين بجريمة التغير المناخي.
جاءت التهمة في تقرير اللجنة المتعددة الحكومات للتغير المناخي التابعة للأمم المتحدة.
عودة إلى السياق التاريخي لـ«الفول واللحمة» قبل نصف قرن: عبر الثنائي الشيخ إمام ونجم عما يجول بخاطر قطاعات الشعب التي لا صوت لها منذ تأميم الصحافة والتلفزيون والإذاعة، لتصبح الصوت الرسمي فقط منذ أكثر من ستين عاماً.
كانت السخرية المرة اللاذعة من التناقضات الاجتماعية، والقوانين واللوائح المناقضة للمنطق، هي سلاح الفقراء الذين لا ساعد لهم؛ تقاليد تعود إلى أيام شاعر الإسكندرية الأشهر بيرم التونسي (1893 - 1961)، والموسيقار السكندري الشيخ سيد درويش (1892 - 1923)، ملحن النشيد الوطني المصري الحالي. تقاليد السخرية الشعبية من الطبقة الحاكمة ليست حكراً على شعب واحد، بل تمارسها كل الأمم.
سخر الثنائي إمام ونجم من الترويج لسياسة الحد من استهلاك اللحوم، والدعوة إلى استبدال البقوليات، كالفول والفلافل (الطعمية)، بها.
في الإطار التاريخي السياسي الاجتماعي، نفحص المقطع الثالث من الأغنية.
«ثم أضاف الدكتور محسن، إن اللحمة دي سم أكيد، بتزود أوجاع المعدة، وتعود على طولة الإيد، وتنيم بني آدم أكثر، وتفرقع منه المواعيد، واللي بيكالوا اللحمة عموماً حيخشوا جهنم تأبيد».
مزجت عبقرية الشاعر الكلمات لتفي بالمعني.
الدكتور الخبير ينافق الأجهزة المسؤولة عن سياسة الاستغناء عن اللحوم، بتقديم أسباب علمية عن أضرارها على الصحة، ثم يضيف إتلافها للإتيكيت الاجتماعي، بالتخلف عن المواعيد بسبب النوم، ثم الضرر الأخلاقي القانوني الديني، فارتفاع ثمن اللحوم سيدعو الفقراء للسرقة، ومصيرهم جهنم وبئس المصير.
وتعود بنا آلة الزمن إلى هذا الأسبوع، والتاريخ يكرر نفسه.
لجنة التغير المناخي تعتمد على دعم الرأي العام من الحملة المواكبة لها بأسماء مختلفة، كأصدقاء الأرض، والخضر، ومنتجي أدوات وآلات مصادر الطاقة المتجددة المعتمدين دائماً على دعم دافع الضرائب.
اللجنة تقدم أدلة «علمية» عن مسؤولية المجتمع الصناعي عن التغير المناخي.
الصوت العاقل همسة خافتة للتذكير بأن الكومبيوتر مجرد آلة حاسبة معقدة، أدلتها «العملية» مرهونة بتفاصيل المعطيات التي يدخلها «الدكتور محسن»، وبلا استمرار حالة التخويف من المناخ يفقد الدكتور رزقه وامتيازاته.
لحبك دراما «حالة طوارئ التغير المناخي» (ويا له من اغتيال لغوي)، تروج إحالة الشعور بالذنب ببث معلومات عن إضافة كربون المحروقات عند الانتقال بالطائرة أو السيارة، وتسبب التلوث في موت مخلوقات الله.
والأبقار؟
تُخرج هذه الوحوش، بعد هضم الحشائش والتبن، والعياذ بالله، غاز الميثان المتهم بالتغيير المناخي.
الشاعر والمغني، بحسيهما الشعبي، وعيا الأسباب الحقيقية وراء الدعوة إلى استبدال التهام الفول ومشتقاته بأكل اللحوم؛ أسباب لا علاقة لها بالصحة، بل اقتصادية وسياسية، وهي تناقص الثروة الحيوانية في نهاية الستينات إلى ثلث ما كانت عليه قبل 1952، بينما زاد عدد السكان إلى الضعف.
فتتت الملكية الزراعية في 1952 و1953 و1960 بما عرف بالإصلاح الزراعي، بالاستيلاء على المزارع الكبيرة بآلاف الفدادين، وتقسيمها إلى 3 أفدنة توزع على صغار المزارعين.
المزارع الضخمة كانت تدار كصناعة زراعية بمختصين ينسقون مواعيد الزراعة والري والحصد، ويوازنونها باقتصاديات منتجات الألبان مع اللحوم والدواجن. الفلاح البسيط الذي تنحصر خبرته في رعاية حقل بمحصول واحد لا تتمكن اقتصاديات أفدنته الثلاثة من استيعاب إنتاج الألبان، ناهيك عن اللحوم.
شحت اللحوم من الأسواق، وبدأت مصر في استيراد اللحوم المجمدة من الصومال وأستراليا والأرجنتين، بعد أن كانت بلداً مصدراً للحوم. لمعالجة نقص اللحوم، صدر قرار تحديد بيعها بثلاثة أيام في الأسبوع.
امتلاك الميسورين لثلاجات كبيرة الحجم، مع قدرتهم الشرائية على الحصول على مقرر اللحمة الأسبوعي مرة واحدة، لم يؤثر على استهلاكهم، بينما حرم معظم الفقراء لانخفاض قدرتهم الشرائية، وصغر حجم ثلاجاتهم، إذا امتلكوها أصلاً.
ولذا اتجه الأقل ثراء إلى شراء اللحوم يومياً من الأسواق الشعبية والريفية خارج محلات الجزارة التي تراقبها وزارة التموين، مؤدية لارتفاع معدل ذبح الماشية والخراف يومياً عما قبل سياسة الأيام الثلاثة التي أدت إلى نتائج عكسية أجهزت على ما بقي من الثروة الحيوانية.
الديمقراطيات الغربية لا تعرف الأساليب الشمولية الاستبدادية، فلا يمكنها فرض قرارات أوتوقراطية، كتحديد أيام بيع اللحوم، بجانب استحالة تطبيق السياسة عملياً، فتركز جهود أصحاب آيديولوجية التغير المناخي على السياسة الضرائبية لإرغام الناس على تغيير السلوك.
أي إقناع الحكومة بفرض الضرائب على اللحوم أو مربي ماشية إنتاج اللحوم.
وبالطبع، كما حدث في مصر في الستينات، الموسرون في بريطانيا وأوروبا سيستمرون في استهلاك اللحوم، ويحرم منها الفقراء.
أو الأسوأ، مثلما حدث من قبل، ازدياد نشاط عصابات التجارة في لحوم حيوانات لا تصلح للاستهلاك الآدمي، كالجياد والبغال التي تنتهي صلاحياتها كحيوانات غير قادرة على العمل في المزرعة.
أي تكرار لدعوة حملة التغير المناخي لفرض ضرائب باهظة على السفر بالطائرات، لتصبح فرصة التمتع بأسبوع من الشمس في جو معتدل حكراً على الأغنياء، ويحرم منها الفقراء.
وبلا ترويع الرأي العام من كارثة مناخية وشيكة، ستفقد لجان البحوث وعلماء التغير المناخي مصدر رزقهم، لكنهم يسافرون بالطائرات الخاصة، وتذاكر الدرجة الأولى، آلاف الأميال لينصحونا بعدم قيادة السيارة نصف ساعة لشراء بضع حاجيات من السوق.
قادة مظاهرات البيئة لمواجهة «حالة طوارئ» المناخ من أبناء الطبقات الثرية، والأسر التي تمتلك الفيلات في جبال شمال إيطاليا وجنوب فرنسا، يقضون فيها أربع إجازات سنوياً. وفي الوقت نفسه، ينددون بأسر فقيرة تلوث البيئة، لأنها تقتطع من فتات قوتها لتنحشر في مقاعد ضيقة في رحلات طيران رخيصة لقضاء بضعة أيام على شاطئ لم يره الأطفال إلا في تمثيليات التلفزيون.
شاعر الفول واللحمة لخص ازدواجية المعايير، بسؤال الدكتور محسن البدين: «حيث انتوا عقل العالم، والعالم محتاج لعقول، ما رأي جنابك وجنابهم، فيه واحد مجنون بيقول: إحنا سيبونا نموت باللحمة، وانتوا تعيشوا وتاكلوا الفول»؟