بقلم: عادل درويش
تذكرت حادثة من صباي في الإسكندرية، في خريف 1953، على شارع ترعة المحمودية؛ خط لقاء مصر بأوروبا المتوسطية بنسيج الموزايك العرقي والطبقي والاقتصادي. خليط من أرستقراطيين تحولوا مستثمرين، وعصاميين رأسماليين وفقراء العمال يعبرون الجسور إلى غابة شاسعة من المصانع والورش والمخازن على الضفة الجنوبية من الترعة؛ العمود الفقري للصادرات المصرية.
الضفة الشمالية كانت صفاً من أسيجة الزهور العاطرة لقصور تبرع بها الأمراء لتصبح مدارس، كقصري الأمير عمر طوسون (1897 - 1944) كبير الأعمال الخيرية وأول المطالبين باستقلال مصر في فرساي، وحسن بك الإسكندراني (1790 - 1854) أميرال البحرية المصرية في عهد محمد علي باشا.
قرب كوبري النزهة أمام سور حدائق «قصر الزهور» (تبرع به المسيو أنطونياديس لبلدية المدينة) تعجبت من شاب يستغيث ممسكاً بجيوبه بدلاً من حماية وجهه من لكمات وصفعات رجلين ضخمي الجثة.
همس أبي، رحمه الله، بأنهما مخبرا بوليس، والرجل يفضل الصفعات على قطعة مخدرات يدسها المخبران في جيبه «توديه في داهية»، وسحبني ليتصل بالإسعاف من تليفون عمومي بنصف قرش، فقد كان «الموبايل» وقتها في دائرة أفلام الخيال العلمي. وصول الإسعاف سينقذ الرجل الذي سيختلق المخبران قصة وهمية عن تعرضه لاعتداء «مجهول»، قال أبي، مضيفاً بلهجة ساخرة إن الشاب سيوقع الإقرار المطابق لقصة المخبرين في سجل «كوتسيكا» (المستشفى اليوناني القريب).
تذكرت الحكاية ليس فقط لتشابه لندن في كوزموبوليتها مع «المرحومة» الإسكندرية، التي غرقت في بحر التاريخ، بل لأن رجل أعمال، مناهضاً لـ«البريكست»، نجح في تحريك قضية غير مسبوقة. قضية مدنية تحمل ضمنياً تهمة جنائية هي «سوء السلوك» أثناء شغل منصب عام (misconduct in public office).
«المتهم» هو بوريس جونسون وزير الخارجية السابق.
سوء السلوك في منصب عام دائماً يؤدي لاستقالة المسؤول، ومثوله أمام محكمة، لكن الادعاء كان دائماً «التاج»، أي الدولة. وهي المرة الأولى التي يرفعها مواطن، وإن كان بعضها كشفته الصحافة في السابق، وأثارت الجهات المسؤولة، كاللجان البرلمانية للتحقيق، ثم يوجه ادعاء «التاج» (وكيل النيابة) الاتهام ويحال الأمر للقضاء.
تعريف ادعاء «التاج» ونقابة المحامين لسوء السلوك أثناء شغل منصب عام (أي منصب يموله دافع الضرائب) «عندما يتصرف صاحب المنصب أو يمارس نشاطاً (أو يتعمد التجاهل) بأسلوب يؤدي إلى الإخلال بواجبات المنصب». التهمة تحمل عقوبات أقصاها الحبس المؤبد، لكنها غير مدرجة في القانون الجنائي، بل القانون العرفي العام، وبالتالي فمسار القضية في التهمة محكمة «التاج» (محكمة بمحلفين) والمحكمتان العليا والسامية (الاستئناف والنقض). النتيجة أن كل قضية (وهو أمر نادر التكرار) تعتبر سابقة، أو قد تبنى على سابقة قبلها، وهو الأمر المثير دستورياً في القضية الجديدة.
محرك القضية صمم موقعاً لجمع التبرعات على الإنترنت لاتخاذ إجراءات قانونية ضد بوريس جونسون وتيار «البريكست» (الغرض الحقيقي منع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، لأن المتقدم بالقضية من نشطاء إلغاء نتيجة الاستفتاء)، وجمع حتى الآن أكثر من نصف مليون دولار، كشفت صحف «ديلي تلغراف» و«ديلي ميل» و«ديلي إكسبرس» أنه أنفق آلافاً منها على أموره الخاصة غير المتعلقة بالقضية.
الاتهام لا يتعلق بجونسون أثناء شغله منصب وزير الخارجية، بل في الأسابيع الأخيرة لشغله منصب عمدة لندن في عام 2016 حتى 8 مايو (أيار) عندما خلفه صديق خان، الوزير السابق في حكومة توني بلير العمالية.
غرابة هذه القضية أن جونسون لم يسئ استغلال منصبه كعمدة أو يهمل إنفاق المال العام اللندني، بل متهم بتضليل الناخب، أثناء حملة الاستفتاء على الاتحاد الأوروبي التي قادها بشعار «فلننفق مبلغ 350 مليون جنيه (442 مليون دولار) التي ندفعها أسبوعياً للاتحاد الأوروبي على خدمات الصحة العامة».
الرقم هو المبلغ الإجمالي الذي تدفعه الخزانة البريطانية لبروكسل. الخصوم اتهموه بالتضليل لأنه لم ينقص 107 ملايين أسبوعياً قدر المحاسبون إعادتها إلى المملكة المتحدة بأشكال مختلفة نقدياً وعينياً؛ المؤيدون أشاروا إلى ما تدفعه بريطانيا إضافياً لبروكسل ضمن المعونة الدولية (ثلاثة ملايين أسبوعياً) والمصاريف الإدارية ونفقات المباني البريطانية تحت تصرف الاتحاد ورواتب المعارين التي تصل إلى مائة مليون أسبوعياً. كما أن العائد (نوعياً أو نقدياً) يتفاوت يومياً، لأنه يخضع لسياسات الاتحاد المتغيرة؛ أي صعوبة تحديد رقم دقيق للصافي المدفوع لميزانية أوروبا بعكس الإجمالي الثابت الذي اختاره جونسون ورفاقه. طبعاً هذه التفاصيل، سيناقشها المحامون كحيثيات لرفض القضية، بجانب أن حملة الدعاية والاستفتاء نفسه كانا على المستوى القومي وليست أموراً خاصة بلندن، فجونسون لم يخض الحملة كعمدة العاصمة أو يستغل صلاحيات المنصب.
لندن هي نموذج مصغر للعالم بعرقياته وعينة ممثلة لتكافل المجتمع متعدد الطبقات، فترى فيها قصور الأرستقراطيين التي تحول بعضها إلى مدارس ومنافع عامة، وبجانبها المساكن المزدحمة كحارة في بنغلاديش، أي يمكنك أن تعبر من العالم ما بعد الأول إلى العالم دون الثالث في مسافة ربع كيلومتر. وجونسون كان السياسي المحافظ الوحيد الذي تمكن من هزيمة مرشحي الأحزاب «الإنترناشيونال» اليسارية والليبرالية، في انتخابات لندن. وبلغت شعبيته أنه الوحيد اليوم بين ساسة المملكة المتحدة الذي يعرفه سائق التاكسي والجرسون وربة البيت باسمه الأول فقط «بوريس».
القضية محاولة لمنع بوريس (الذي دعمه الرئيس ترمب في مقابلة صحافية أمس) من دخول «داوننغ ستريت»، إذا فاز بزعامة الحزب. فهو أحد أربعة مرشحين يخشاهم المفاوض الأوروبي الذي «باع ترام بروكسل» لرئيسة الحكومة الحالية تيريزا ماي.
نظر القضية أمام القضاء يرسي أسساً سابقة يهدد خطرها الديمقراطية نفسها، لأنها تمحو خطوطاً ليست فقط حمراء بفصل السلطات والمؤسسات التي ترتكز عليها ديمقراطية يحتذى بها العالم، بل سيكون اجتياز هذه الخطوط كعبور حقول ألغام تنفجر في الجميع.
حتى الآن نجح الموالون لبروكسل في تعطيل «البريكست» باستخدام وسائل دستورية وأدوات برلمانية، أي في إطار الدائرة السياسية، والناخب البريطاني ناضج يستطيع أن يحكم بنفسه على قدرات رجل السياسة، خصوصاً أن السلطة الرابعة تقف بالمرصاد لتفصل للمرشح ثياب الإمبراطور الجديدة.
ما يتعين على بوريس جونسون الآن هو تحمل الضربات المؤلمة، والتمسك بأعصابه داخل جيوبه، ليغلقها أمام محاولات القانونيين دس «مصيبة» في جيبه تنتهي بالديمقراطية نفسها وراء القضبان، والأهم ألا يوافق على القصة الوهمية التي اختلقها المخبران.