توقيت القاهرة المحلي 18:29:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الهوية بين المناهج الكلاسيكية والتمرد

  مصر اليوم -

الهوية بين المناهج الكلاسيكية والتمرد

بقلم - عادل درويش

تصادف إعلان فرقة «مسرح شكسبير» الملكية توسعها في مشروع مشاركة المدارس الابتدائية في مناطق بريطانيا الفقيرة، مع إعدادي لهذا العمود عن مناظرة في الأسبوع الماضي بين صاحبي نظرتين متناقضين بشأن مناهج الثقافة والفنون في مدارس مناطق الأقليات، خصوصاً السود.

مشروع نقل المسرح الشكسبيري لتلاميذ المدارس بدأ تجربة قبل 10 سنوات في مقاطعة ستافوردشير (270 كيلومتراً شمال غرب لندن) وتوسع تدريجياً في مدارس لفئات فقيرة، كان آباؤهم مهاجرين، ومعظمهم لا يتحدث الإنجليزية، ولم يذهب للمسرح في حياته. فاق عدد التلاميذ المستفيدين 135 ألفاً في مناطق افتقرت إلى الفنون والثقافة الكلاسيكية والمسرح، ويطمح المسؤولون إلى مضاعفة العدد خلال 5 سنوات.

أما المناظرة التي حضرتها، فنظمتها «إنتليجنس سكوير»، وهي مؤسسة بدأت نشاطها قبل عقدين وتحولت إلى اليسار الليبرالي في 2012. تخصصها تنظيم المناظرات بين مثقفي اليسار وأعضائها والخصوم الفكريين، أو بين مفكرين وإصلاحيين يطرحون مقولتين متعارضتين. في المجادلة يلقي كل بحججه ويجيب على الحاضرين، وهم إما أعضاء في المؤسسة أو موجودون بدعوة خاصة، ثم يصوتون لاختيار الفائز، إما من «صاحب مقولة الجدل أو خصمهم».

مقولة المناظرة كانت «حان الوقت لإلغاء مناهج دراسية من إرث ثقافة الرجل الأبيض». خلفية مقولة الجدل هي إعادة تعريف الثقافة؛ وكنا ناقشنا الأمر في «الشرق الأوسط» عند اندلاع تظاهرات حركة «أرواح السود تهم» والاستقطاب حول إعادة تعريف الهوية. صاحب المقولة التي دافع عنها في المناظرة، كاتب ومحاضر يساري من مروجي أفكار وتطبيقات «critical race theory» نظرية النقد العرقية، التي تطورت منذ الستينات، ومن أهم ركائزها ضرورة إعادة صياغة الهوية، وإعادة كتابة التاريخ، وإعادة تفسير الأحداث التاريخية بمقاييس وموازين أخلاقية معاصرة لم تكن سائدة حتى صيغت عند وقوع الأحداث. مروجو النظرية ومستخدموها لتحليل الأحداث ينتمون للحركات والتيارات الماركسية واليسارية، وبعضها بالغ التطرف، ويلجأ للعنف، كتحطيم مضخات محطات الوقود أو سيارات أساتذة الجامعات الكلاسيكيين. أهم «إنجازات» الحركة كان «اللا منبرة» التي لا تزال سائدة في الجامعات والمعاهد العلمية، أي بتهديد الطلاب ومؤيديهم بالإضراب والتظاهر، مطالبين بسحب منبر التعبير بإلغاء مشاركة محاضرين وأساتذة جامعات، إذا كانت لهم كتابات أو أقوال سابقة عدها أصحاب النظرية أو أتباع فكرة راديكالية مهينة لمعتقداتهم أو للهوية الجديدة التي تقمصوها.

المعارض للمقولة، هو الآخر من المهاجرين السود، وأيضاً من اليسار، لكنه غير ملتزم بنظرية النقد العرقي، وله كتابات في «الغارديان» و«النيوستاتسمان» اليساريتين. جادل بأن تراجع المستوى الاقتصادي والمهني والإخفاقات الاجتماعية للأقليات، خصوصاً السود من أبناء الجيل الثالث والرابع من مهاجري جزر الكاريبي، لا تعود للتفرقة العنصرية وحدها، وجادل مستنداً إلى أدلة إحصاءات مؤسسات حقوق الإنسان العالمية بأن نسبة العنصرية هي الأقل في بريطانيا عن بقية بلدان أوروبا وأميركا الشمالية. قال إن ارتفاع معدلات الجريمة وسوء التحصيل الدراسي والبطالة بين الشباب السود تعود لأسباب أخرى، أهمها التعليم قبل الاقتصاد. وفي المناظرة ساق أمثلة بإنجازاته كخريج أرقى الجامعات، وأنه وخصمه في الجدل تعلما في مدارس بريطانية وتخرجا في الجامعتين الإنجليزيتين الأشهر بمنح تعليمية من «الرجل الأبيض»، وأعاد أسباب نجاحهما كمفكريَن مثقفيَن إلى المناهج التعليمية الكلاسيكية التي طالب الخصم الراديكالي بإلغائها.

صاحب مقولة الإلغاء يروج لتوسيع مشروعه بدراسة الثقافة والتاريخ من منطلق الانحياز للأقليات، وليس بالموضوعية الأكاديمية والتفكير النقدي، والاستبدال بالفنون التقليدية أشعار وموسيقى «الراب» (rap music)، وهي بإيقاع قوي وتمجد التمرد والعنف، بلغة ركيكة لها رموز، معناها الحقيقي يقتصر على «ثقافة الشارع التحتي»، والمقصود عالم المخالفات والمخدرات والجرائم الصغيرة. العديد من الأخصائيين الاجتماعيين والتعليميين يعدون هذا النوع من الشعر والموسيقى مسؤولاً عن انتشار العنف وتبريره، وأيضاً انخفاض مستوى التحصيل المعارفي بين طلبة المدارس السود. المدافع عن الثقافة الكلاسيكية جادل بأن التوسع في دراسة فلسفات عصر التنوير وأدبياته والملاحم الإغريقية وشكسبير، والموسيقى الكلاسيكية، ستوسع مدارك التلاميذ السود الفقراء وترتقي بذوقهم.

بريطانيا تقف في مفترق طريق بدأ يخرّب هويتها الثقافية القومية، فهي خليط من الثقافات المتعددة الأعراق والأديان والطبقات الاجتماعية والاقتصادية، ما يجعل المدرسة الابتدائية في المدن الصناعية مثل موزايك متعدد الألوان والأشكال. نسيج ذكرني بتجربتي في مسقط رأسي الإسكندرية، التي كانت عقب الحرب العالمية الثانية تختلف عن بقية مدن أفريقيا كلها، فصحفها تصدر بلغات متعددة، ومدارس بعشرات اللغات والثقافات، معلموها وتلاميذها من الجنسين لا يقتصرون على إثنية أو ديانة مؤسسي المدرسة، بل كانت شاملة للآخرين. مدارس وزارة المعارف الحكومية قلدتها وكانت مجانية اختلطت فيها الطوائف والموسرون والفقراء. زيارات المسرح والأوبرا، والكونسير، ودراسة الموسيقى، كانت ضمن المناهج؛ فكانت الهوية الوطنية واضحة منتمية للحداثة المتوسطية التعددية، ووقتها لم نسمع بالتحرشات، أو باشتباكات طائفية، أو بالعنف، وغيرها من السلبيات التي جاءت مع تلاشي ملامح الهوية الوطنية التعددية.

الجدير بالذكر، أن صاحب مقولة إلغاء مناهج إرث الرجل الأبيض، وهو الأكثر ظهوراً في التلفزيون وفي تظاهرات «اللا منبرة»، فاز بأصوات أكثر (58 في المائة مقابل 42 في المائة) على خصمه المدافع عن كلاسيكيات الثقافة الراقية لأنه الأقل شهرة وظهوراً على شاشات الشبكات الشعبية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الهوية بين المناهج الكلاسيكية والتمرد الهوية بين المناهج الكلاسيكية والتمرد



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon