بقلم - عادل درويش
قول «إنه الاقتصاد يا غبي» لجيمس كارفيل، مستشار حملة الرئيس الثاني والأربعين للولايات المتحدة (1993 - 2001) بيل كلينتون في 1992 (وقتها حاكم أركنسو وتكتب أركنساس 1983 - 1992) كان مناسباً انتخابياً لكل مكان، تاريخياً؛ لكن ما مدى ملائمته لبريطانيا اليوم؟
ومدى تأثيره على حظ المتنافسين على زعامة حزب المحافظين، وبالتالي رئاسة الحكومة بعد اثنين وعشرين يوماً، وهما وزيرة الخارجية ليز ترس، وخصمها وزير المالية السابق ريشي سوناك؟
الإجابة، في التعبير الإنجليزي «لا... ولكن»، أو لا المشروطة.
السبب أنها ليست انتخابات عامة، الخيار فيها لعموم مواطني المملكة المتحدة، وإنما يقتصر التصويت على أعضاء حزب المحافظين الحاكم (نحو 180 ألف). والأمر مماثل مهما كان لون الحزب الحاكم لأنه سيخضع للائحة الداخلية للحزب. في 1976. عندما قرر رئيس الحكومة العمالية (1974 - 1979) السير هارولد ويلسون (1916 - 1995) الاستقالة فور علمه بإصابته بالزهايمر (وكتم الأمر على كل من حوله)، انتخب أعضاء حزب العمال - حسب اللائحة الداخلية - وزير الخارجية وقتها، السير جيمس كالاهان (1912 - 2005) ليخلفه.
فالنظام السياسي في أقدم الديمقراطيات أساسه تمثيل الأحزاب المنتخبة عبر الدوائر البرلمانية الـ650 وليست بانتخاب مباشر لرئيس الدولة كحال فرنسا مثلاً. الحزب، أو الكتلة الائتلافية، الفائز بالعدد الأكبر من مقاعد مجلس العموم، تكلف الملكة زعيمه بتشكيل الحكومة باسمها (ولذا تعرف رسمياً، وفي المراسلات الداخلية والخارجية، بحكومة صاحبة الجلالة).
الإجرائيات المألوفة (التقاليد والأعراف البرلمانية، والسوابق وهي في قوة القانون وربما أكثر تأثيراً في الحياة السياسية وسير العدالة في المحاكم لغياب الدستور المكتوب؛ فالدستور، عرفياً، هو تراكمات السوابق والمواثيق والممارسات، والأحكام القضائية) لتغيير رئيس الحكومة في فترة بين انتخابين برلمانيين؛ ولذا فالقول: «إنه الاقتصاد يا غبي» يفترض محدودية تأثيره هنا. لكن «لا المشروطة» لعدة عوامل، أهمها، خروج المناظرات بين المرشحين (كانا زميلين في وزارة بوريس جونسون حتى الشهر الماضي)، عن الحلبة التقليدية في داخل الأحزاب البريطانية المعروفة بالهستينغ husting، والتي تقام أمام الجمعيات (أو معهد أو نادٍ حسب تسميات القاعدة الحزبية في الدائرة) إلى العلن على مستوى المملكة كلها (راجع مقالتنا نهاية الشهر الماضي في «الشرق الأوسط»). استجابة إدارة الحزب لإلحاح شبكات التلفزيون على بث المناظرات علناً، ينقلنا إلى عامل آخر، يلعب فيه الحظ العاثر (الذي أتت به رياح لم تشتهيها سفينة المحافظين) دوراً أقوى وأكثر تأثيراً من سياسات الحكومة التي كانت الأكثر نجاحاً في حكومات العقود الثلاثة الماضية. فبجانب تدهور الاحتياطي النقدي للخزانة بسبب دعم الاقتصاد أثناء إغلاق وباء «كوفيد - 19». وتسليح أوكرانيا وتأثير الحرب الاقتصادية على روسيا، فإن التوقيت (باستقالة جونسون ومنافسة اختيار زعيم جديد) أيضاً زاد طين المحافظين بلة.
المناظرات التلفزيونية تخرج تحديد الأجندة السياسية من يد الناخب دافع الضرائب الذي رتبها حسب أولوياته في مانيفستو الحزب الذي اختاره (بأغلبية ساحقة) في انتخابات 2019 (منح المحافظين قرابة 44 في المائة من الأصوات، ترجموا إلى 365 مقعداً في مجلس العموم)، إلى المؤسسات الصحافية، ويفقد الحزب الحاكم زمام المبادرة برسم استراتيجية مخاطبة الرأي العام. فالأولويات تتغير، حسب مزاج، أو تقديرات معد البرنامج ومقدميه، ورد فعل جمهور الاستوديو والتفاعل على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة «تويتر» اللحظي، التي قد تغير اتجاه أسئلة المذيع أو المذيعة في إدارتهم للمناظرة.
وكانت الحملة الصحافية، واتهامات تعمد تضليل البرلمان، وما أعقبها من ضغوط باستقالة عدد من الوزراء، أدت إلى استقالة جونسون في وقت ليس لدى الحزب فيه برنامج انتخابي محدد باستراتيجية للاقتصاد، فالانتخابات المتوقعة هي خريف عام 2024 حسب قانون الانتخابات البريطانية المعدل بتثبيت الفترة البرلمانية بخمس سنوات.
وبينما أولويات أعضاء الحزب الحاكم، وأصواتهم فقط ترجح كفة أحد المتنافسين، هي البقاء في الحكم بالفوز في الانتخابات القادمة؛ فإن تعميم المناظرات على الوسائل التلفزيونية يؤثر، سلبياً، على المحافظين، بدفع كل مرشح، ومعسكره إلى الإسراع بارتجال سياسات أغلبها غير مدروس بدقة.
وهنا يظهر تأثير مقولة كارفيل عن الاقتصاد، حيث يحتل القلق على المستوى المعيشي، قبل الخدمات، قائمة أولويات الناخب، وهي لا تتجزأ عن ارتفاع أسعار الطاقة والوقود الذي أصبح أزمة حقيقية في الرأي العام البريطاني بصرف النظر عن التفضيل الحزبي للمواطن. بل إن الحرب بالنيابة ضد روسيا، لا تحفل باهتمام البريطانيين إلا من زاوية واحدة فقط، هي ارتباطها بارتفاع أسعار الوقود بأمل أن يؤدي حل الأزمة الأوكرانية الروسية إلى خفض أسعار الطاقة.
ترس، وسوناك، غيرا من سياستهما المعلنة في بداية المنافسة استجابة لردود فعل الرأي العام، وليس فقط أعضاء الحزب.
سوناك بدأ حملته مجادلاً بضرورة التقشف وزيادة الضرائب لدفع الديون للتحكم في معدلات التضخم (بجانب رفع بنك إنجلترا سعر الفائدة) مستدلاً بنجاحها أثناء ولاية الليدي ثاتشر (1979 - 1990) بدلاً من الاقتراض؛ لكنه تراجع، (في مقالته في التايمز أول من أمس،) معلناً أنه سيلجأ للاقتراض لتوفير الدعم للأسر محدودة الدخل لدفع فواتير الطاقة.
لكن التضخم هذه المرة ليس بسبب النشاط الاقتصادي الداخلي، بل لأسباب خارجية أهمها أسعار الوقود وحرب أوكرانيا، وهي عوامل خارج سيطرة حكومة بريطانيا سواء رفعت الضرائب أم خفضتها داخلية.
ترس تتبع نظرية آرثر لافر المستشار، الاقتصادي لإدارة ريغان، بأن تخفيض الضرائب يزيد من قدرة المواطن الإنفاقية، ويحفز الشركات والأعمال لجذب استثمارات تخلق وظائف يسهم شاغلوها بدفع ضرائب، وبالتالي يرتفع دخل الخزانة وينتعش الاقتصاد تدريجياً، وتجادل بأنه بدلاً من تحصيل الضرائب ثم دفع بعض الدخل كإعانة للفقراء، فلا داعي لتحصيلها أصلاً، وتعارض اقتراح الضرائب الاستثنائية على أرباح شركات البترول (بعكس سوناك). وقرابة أربعة ملايين لا يدفعون ضرائب أصلاً (فدخولهم أقل من 12750 جنيهاً أو 15500 دولار، وهي الرقم الحدي لبداية دفع الضرائب)، وبالتالي لن تؤثر سياستها على أزمة فواتير الطاقة أو مستوى معيشتهم، فتراجعت هي الأخرى قبل ثلاثة أيام عن سياستها المعلنة سابقاً بعدم تقديم دعم فواتير الطاقة وغلاء المعيشة لمحدودي الدخل.
إنه الاقتصاد... للأذكياء والأغبياء معاً!