توقيت القاهرة المحلي 19:48:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الكفر بالوطن!

  مصر اليوم -

الكفر بالوطن

بقلم: د. آمال موسى

أثناء الانفجار الهائل الذي هز بيروت وأوقعها في مشهد من الخراب والحزن، بلغ الانفعال بعدد من اللبنانيين إلى إعلان أن الهجرة أرحم من البقاء في لبنان وأن لبنان لم يعد المكان الآمن. هذا الخطاب الذي حاولتُ تهذيبه وغض الطرْف عما تضمنه من كفر بالوطن، أصبح ظاهرة في بلدان عربية كثيرة. ففي تونس يتكرر هذا الخطاب بين من يبحث عن أفق لمغادرتها وبين رافض للعودة إلى أرض الوطن.
وأحياناً نسمع كلاماً في تجريح تونس الوطن أو لبنان الوطن أو..... يقشعر له البدن ونصعق من شدة الاحتقان والكفر الشديد بشيء اسمه وطن. وفي مقابل ذلك فإن هذا الخطاب نكاد لا نسمعه من مجتمعات غير عربية وإسلامية.
الواضح أن علاقة شعوبنا بالوطن تعاني من وهن ومن عطب عميق. السؤال مَن أفسد هذه العلاقة وما هي الالتباسات التي وقعت في فخها؟
لنبدأ بالسؤال الثاني: نلاحظ أن هناك نوعاً من الاندغام بين الطبقة الحاكمة والوطن. أي أن الذين يحكمون في بعض البلدان أصبح الناس يتعاملون معهم على أنهم هم الوطن. لذلك فإن حالة الإحباط السياسي التي يعاني منها هؤلاء من إخفاقات الطبقة السياسية الحاكمة هناك من يحولها في وجه الوطن وشحنته الرمزية. أي أن الأوطان تعرف إسقاطات سلبية لا يد لها فيها.
وبناء عليه يمكننا أن نستنتج هول تداعيات الفشل السياسي، خاصة الذي يقترن بالفساد واللامبالاة وبالحسابات غير الوطنية. فالنتيجة قاسية وموجعة باعتبار أن بلوغ الفرد نقطة الكفر بالوطن يعني أنه فرط في قطعة من جسده وتنازل عنها وقطع عضواً عزيزاً يمنحه الحياة الطبيعية.
فالسياسة في بلداننا تجاوزت الانتقادات التي كنا نوجهها لها في العقود الماضية وانتقلت إلى منطقة حمراء خربت فيها تمثلات الوطن وأنتجت حالة شعورية معقدة وغير طبيعية، حيث إن حب الوطن يعني حب الانتماء ويعني الاعتزاز ويعني أن المسار التاريخي للحب يبدأ بالوطن ويتفرع نحو روافد أخرى تنهل منه وتصب فيه.
وهكذا يتضح لنا أن هناك نخباً سياسية حاكمة قد أفسدت علاقة الشعوب بوطنها ومن ثم فقد أسهمت في خلق أجيال معطوبة في وجدانها وينقصها أهم دروس الانتماء وهو درس الانتماء للوطن.
إذن بعيداً عن انتقاد خطاب تهجين الأوطان والكفر بالوطن فإننا نتوقف عند بعض أفكار أهمها أن الاعتقاد في الوطن وتقديس علاقة الانتماء به ليست ثابتة ومقدسة بل هو شعور يخضع للتأثيرات الإيجابية كما السلبية، مما يجعل من حب الوطن ليس أمراً بديهياً مع الأسف بقدر ما هو نتيجة وتفاعلية إيجابية يمكن أن تكون وتكبر ويمكن أن تتلاشى بفعل الإحباطات.
طبعا في تراثنا العربي نجد ما يشير إلى تمجيد الغربة أحيانا وفي تمجيدها استبطان لتهجين الانتماء للوطن ولمسقط الرأس. كما أن تاريخنا المبني على الرحيل بحثاً عن الماء والنبات وما يسد الرمق، سطر ذاكرة تتجاذب بين الاستقرار والهجرة والتنقل. الانتماء كان يعني القبيلة ثم العرق ثم الدين، وعهدنا بفكرة الوطن ليس قديماً بشكل يسمح لها بالتغلغل في الوجدان، بل إن الأوطان في بعدها الجغرافي هي حديثة التقسيم؛ فمن كان ينتمي إلى بلاد الشام بات عليه منذ عقود قليلة جداً أن يحدد أي قطعة في بلاد الشام هي وطنه.
وحتى غرس ثقافة حب الوطن وكيفية البناء الرمزي للعلاقة بالوطن لم تتعهدهما المدرسة بشكل معمق، وارتبط إنتاج الشعر الوطني والأغاني الوطنية بالمناسبات السياسية والانتماء السياسي، الأمر الذي أضفى على المنتوج الفني الخاص بتيمة الوطن شيئا من النفاق لأن السياسة ذاتها في بعض بلادنا على امتداد العقود الماضية اعتمدت بنيويا على التزلف والنفاق.
وكدليل على هذا الكلام أن الكثير من الأغاني المصنفة وطنية في تونس وتم إنتاجها في مرحلة حكم رئيس سابق قد تمت مقاطعتها في وسائل الإعلام وتم التعامل مع أصحابها المطربين بمسافة واتهامات.
يبدو لي أننا نحتاج إلى تفكيك راهن العلاقة بالوطن وتخليص هذه العلاقة من الشوائب والالتباسات وذلك بتعزيز المؤسسات المعنية ببناء العلاقة بالوطن مثل المدرسة وكل ما يخص الإنتاجات الثقافية.
من جهة ثانية قد أصبح مؤكداً أنه لا يمكن أن يستمر الواقع السياسي المستخف بالشعوب وكشفت التجارب المريرة أهمية السياسة في تشويه الإنسان في بلداننا. فكل فرد يعاني من الإقصاء والتهميش ولا ينعم بالحد الأدنى من الكرامة في وطنه هو مشروع عدو لوطنه وليس عاشقاً كما يجب أن يكون. بمعنى آخر فإن العاطل عن العمل هو يعاني من عدم الاعتراف به اجتماعياً فيكون الاحتجاج والانشقاق عن الوطن.
إن تبرير حالة الكفر بالوطن والبحث عن الأسباب التي أنتجتها لا يجعلان من هذه الحالة مقبولة لأن بلوغها يعني تمرير خطاب سلبي وفقير للأجيال القادمة، ويعني أن أوطاننا على كف الاحتقان والانشقاق والكراهية. فكل شيء كي يدوم يحتاج إلى الحب.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكفر بالوطن الكفر بالوطن



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon