الحدث في تونس خلال الأيام القليلة الماضية دون منازع هو فوز السيدة سعاد عبد الرحيم بمنصب «شيخ» مدينة تونس، وذلك في إطار الدور الثاني من الانتخابات البلدية التي شهدتها تونس في شهر مايو (أيار) المنقضي. هذا الحدث أسال الكثير من الحبر والتعليقات المختلفة، وشكّل أهم عناوين أول انتخابات بلدية تُجرى بعد تاريخ الثورة التونسية يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2011.
فلماذا مثّل فوز هذه المرأة بمنصب رئيسة بلدية حاضرة تونس حدثاً وصفه أنصارها بالتاريخي وخصومها بالنكسة «الحداثية»؟
طبعاً الإجابة عن هذا السؤال بشكل معمق، تحتاج إلى وقفات مُطولة تأتي على التفاصيل قبل العناوين، لكن مع ذلك سنحاول القيام بما يشبه القراءة السريعة التلميحية لا غير.
أولاً، من المهم التذكير بأن ترشح السيدة سعاد عبد الرحيم، التي تنتمي إلى حركة النهضة قد مثّل في حد ذاته محل جدل وتعليقات في وسائل الإعلام، وأيضاً في شبكات التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر الرافضون أن هذا المنصب هو ذكوري، ولا تستطيع المرأة طبقاً للتقاليد الإسلامية القيام به لما يتطلبه من التزامات دينية مخصوصة.
لكن إذا كان ترشحها قد أثار جدلاً دينياً وسوسيو - ثقافياً أساساً، فإن فوزها يستدعي فهم أبعاده كي نفهم دواعي ردود الأفعال المختلفة نحوه.
إنه فوز ثلاثي الأبعاد والرسائل باعتبار ما يتضمنه من معانٍ سياسية وجندرية وطبقية معاً.
سنوضح هذه الرسائل الثلاث: فالمقصود بأن فوز السيدة سعاد عبد الرحيم بالذات إنما هو نصر سياسي لحركة النهضة؛ لأن منافسها الذي غلبته بستة أصوات هو من حركة نداء تونس. ولما كانت سعاد عبد الرحيم نهضوية، فإن هذا الفوز الرمزي والقوي الدلالة هو تقوية لفوز حركة النهضة في الانتخابات البلدية. كما لا يفوتنا أن رهان حركة النهضة الإسلاموية على امرأة في منصب اعتباري، خصوصاً أن هذه المرأة النهضوية غير محجبة، يحمل رسالة من حركة النهضة إلى الخارج قبل التونسيين: رسالة تفيد بتطور مقاربتها للمرأة، وتجاوز فكر الفضاء الخاص للمرأة إلى العمومي، ومحاولة دحض الصورة التي تُسوق ضد الإسلام السياسي وتخلف نظرته للمرأة.
وهذه الرسالة تحديداً هي أكثر ما أثار احتقان الحداثيين الذين يرون فيها ممارسة لازدواجية المرجعيات الفكرية والسلوك السياسي. بمعنى آخر، فإن حركة النهضة أصبحت تستثمر السفور في ممارستها للسياسة. وللعلم، فإن هذا الاستثمار لم يبدأ مع سعاد عبد الرحيم التي مثلت مظهره الأساسي، لكن اعتمدته الحركة منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، حيث أصدرت في مطبوعة برنامجها الانتخابي صورتين، واحدة لامرأة محجبة وأخرى لامرأة غير محجبة. ويعد هذا الأمر تحولاً نوعياً في ممارسات الحركة السياسية التي لم تكن تقبل في مراحلها التأسيسية الأولى كأخوات أعضاء في الحركة إلا النساء المحجبات.
إذن هو انتصار سياسي للحركة نجحت في تحقيقه مما زاد في الرصيد السلبي لحركة نداء تونس، وعمّق فكرة صعوبة التعويل عليها في المحافظة على هيمنة الشق الحداثي، خصوصاً أن تونس مقبلة العام المقبل على انتخابات تشريعية ورئاسية. ويمكن اعتبار أن ما أفرزته الانتخابات البلدية من نتائج ضد حركة نداء تونس، إضافة إلى هيمنة قوائم حزب النهضة على أهم المدن التونسية... كل هذا تمت قراءته كمؤشرات لصالح حركة النهضة في الموعد الانتخابي المقبل.
طبعاً هو أيضاً انتصار جندري؛ ذلك أن مرشحة حركة النهضة هي المرأة الأولى في تاريخ منصب شيخ المدينة التي تفوز به، وذلك منذ تأسيس النظام البلدي منذ 1858، ومن يتمعن هذا التاريخ جيداً سيدرك بشكل مضاعف الأهمية الجندرية لهذا الفوز، مع الإشارة إلى أنه بقدر ما تحاول الفائزة وحركة النهضة تسويق هذا النصر من منطلق كونه انتصاراً للمرأة التونسية بشكل عام، بقدر ما تثير هذه الرسالة حفيظة الحداثيين وخصوم حركة النهضة بشكل عام، حيث يعتبرون أن دعم حركة النهضة لها ونزول الحركة بتنظيمها وثقلها الشعبي وتكتيكها وتحالفها مع منشقين من حركة نداء تونس لما تسنى لها الفوز.
لكن مع ذلك، لا يخلو فوز سعاد عبد الرحيم من فوز جندري؛ لأنه لو لم تكن تونس تمتلك مقاربة متقدمة ومخصوصة جداً لملف المرأة لما أجبرت حركة النهضة على المزايدة الإيجابية الجندرية.
لنأتِ الآن إلى الرسالة الثالثة لفوز السيدة سعاد عبد الرحيم؛ إذ هو أيضاً نصر طبقي بامتياز. ذلك أنه لطالما كان هذا المنصب حكراً على العائلات ذات المنشأ التونسي، أي العائلات الكبيرة في الحاضرة التونسية، وهي عائلات لم تنزح من داخل البلاد وتتميز بلهجتها الخاصة وتقاليدها الخاصة، أي أنها تمتلك ثقافة تحتية خاصة جعلتها تشعر بنوع من التفوق عن الفئات الأخرى المنتمية إلى الأرياف.
وسوسيولوجياً الرسالة مهمة جداً، خصوصاً أن القواعد الشعبية لحركة النهضة هي من أعماق البلاد التونسية بالأساس الشيء الذي يعني أن هذا الفوز النهضوي بمنصب شيخ مدينة تونس انقلاب رمزي اجتماعي طبقي ثقافي على تاريخ هذا المنصب.
طبعاً الفوز بهذا المنصب، كما حاولنا إظهار ذلك، يمثل نصراً سياسياً وجندرياً وطبقياً لحركة النهضة، لكن أيضاً ستكون مهمة القبول بامرأة نهضوية الانتماء السياسي والتواصل معها ليست سهلة، إضافة إلى ضغط تحديات البلاد... مهمة صعبة جداً.
فهل ستحافظ حركة النهضة على النصر الثلاثي الأبعاد، أم أنه يمكن أن ينقلب إلى فشل ثلاثي الأبعاد؟
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع