بقلم -آمال موسى
تعرف تونس منذ أسابيع طويلة أزمة حادة في قطاع التعليم الثانوي تحديداً، وذلك بسبب تعرقل المفاوضات بين نقابة التعليم الثانوي ممثلة للاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة التونسية ممثلة في وزارة التربية. فالأساتذة المنتمون إلى التعليم الثانوي، الذي يمثل حلقة أساسية، يطالبون بالترفيع في الأجور وأن يتم اعتبار مهنة الأستاذ مهنة شاقة وذلك بالتخفيض في سن التقاعد. ومن مظاهر هذه الأزمة امتناع الأساتذة عن إجراء الامتحانات للتلاميذ ورد الوزارة على ذلك بعدم احتساب الثلاثي الأول مع ما تزامن مع ذلك من محاولات إظهار تقصير الأساتذة، الأمر الذي أجج غضب الأولياء وأيضاً التلاميذ الذين ردوا الفعل بالامتناع عن الدراسة. وهو ما يعني أن الأستاذ والتلميذ والوزارة والولي جميعهم غاضبون، مع العلم أن آخر التسريبات تقول ببداية وجود انفراج لهذه الأزمة التي طالت وأضفت قلقاً كبيراً على الأسرة التونسيّة.
لقد انطلقنا من الأزمة الراهنة في تونس لنتوقف عند مسألة مدى مشروعيّة اعتبار التعليم مهنة شاقة.
طبعاً كل مهنة يقوم بها الفرد بشكل جدي وبضمير عال هي بالضرورة شاقة، والعمل ينتج عنه آلياً التعب من منطلق أن العمل هو بذل للجهد. المشكلة في بلداننا أن العمل الذي نبذل فيه جهداً ذهنياً ونظهر فيه قدرة على التركيز والتفسير وإيصال المعلومة يعد عملاً مريحاً مقارنة بالمهن التي تقوم على البنية الجسدية للفرد أي الأعمال اليدوية. وكما نلاحظ فإننا أمام تقسيم للمهن تقليدي جداً في الرؤية والفهم، حيث إن الجهد الذهني ينتج عنه تعب جسدي بالضرورة.
هذا بشكل عام.. فما بالنا بمهنة التعليم التي تستوجب حضوراً ذهنياً متواصلاً مهما كانت نفسية المعلم. فهي مهنة تقوم على التواصل والتفاعلية وتتعامل مع فئة عمرية ذات خصائص خاصة جداً. لذلك فهي حقاً مهنة شاقة جداً ولا غنى عنها لأن التعليم هو العمود الفقري للمجتمع وبه يصبح الحلم بالمستقبل مشروعاً، إضافة إلى أن المعلم هو الباث في عملية الاتصال التربوية وهو المحدد لنجاحها وهو الناقل للمعرفة والمعلومات وعلى عاتقه تنصب مهمة التنشئة.
المشكلة أن وضع المعلم في غالبية بلداننا لا يؤهله للقيام بدوره كما يجب، وإذا اضطلع المعلم بوظيفته النبيلة فيكون ذلك عادة على حساب صحته ونفسيته وحياته كلها. فنحن نعترف له بالأهمية ولكن لا نترجم هذه الأهمية بشكل عملي بدليل تردد الجانب الرسمي في تونس في اعتبار التعليم مهنة شاقة والحال أن تونس عُرفت بمركزية المسألة التعليمية منذ الاستقلال، حيث قامت الدولة الوطنية والمشروع البورقيبي على مجانية التعليم وإجباريته وتم تخصيص ثلث الميزانية له رغم تواضع موارد البلاد وميزانيتها.
بمعنى آخر كان يمكن لتونس اليوم أن تمنح للمربي تشريعاً رمزياً يعكس حسن تقديرها لدوره لا أن ترفض مطلبه واعتبار أن هذه المهنة لا تختلف عن المهن الأخرى.
هناك بلدان اعترفت بكون التعليم مهنة شاقة بطريقة مختلفة وعبرت عن ذلك في مظهرين مهمين؛ الأول التقليص في عدد ساعات التدريس (الأستاذ في التعليم الثانوي بتونس يدرس قرابة 17 ساعة أسبوعياً) وأيضاً في أجور الأساتذة والمعلمين. فالأجر المحترم هو اعتراف بالجهد وتقدير له. بل إن الأجر هو ما يجعل الأستاذ يشعر بشقاء مهنته أو انعدام ذلك. ولا نعتقد أن مهنة شاقة بطبيعتها إضافة إلى أجر هزيل يمكن أن يساعداً الأستاذ على القيام بدوره كما يجب بقدر ما ينتجان أستاذاً غاضباً ومحتقناً ومغترباً.
فليس صدفة أن تفهم الدول المتقدمة الدرس وأن تعتني برواتب المعلمين عناية خاصة (في لوكسمبورغ يتحصل المعلم شهرياً على 5500 دولار وفي ألمانيا على 4500 دولار وفي الدنمارك على 3800 دولار وفي أميركا على 3500 دولار وأستراليا على 3400 دولار). وفي العالم العربي، فإنه باستثناء دول الخليج التي تتراوح فيها رواتب المعلمين بين 5800 دولار و2150 دولاراً فإن الأجور في باقي الدول مخجلة جداً، حيث تتراوح المرتبات في مصر وتونس والجزائر والمغرب بين 50 دولاراً و400 دولار.
لقد تعمدت إدراج هذه الأرقام لأنها وحدها بليغة في إرسال الرسائل والتعبير عن الفرق في النظرة للمعلم وفي كيفية تقدير جهده ودوره وترجمة ذلك مادياً. وهذا يخلق نوعاً من الشعور بالقهر، حيث يجد المربي في غالبية بلداننا أنه محروم من التقدير المادي والرمزي فلا يتحصل على ما يضاهي جهده من التعب والإرهاق ولا يحصل على اعتراف تشريعي يقر بكونه يمارس مهنة شاقة تستوجب عمراً معيناً يتم فيه التقاعد. ولا تخفى على الغالبية تلك الدراسات التي أظهرت المشكلات الصحية والنفسية الخاصة بمجتمع المعلمين والأساتذة، التي تصيبهم أكثر مما تصيب غيرهم.
لن نقيم علاقة منطق مع قيم التقدم إلا إذا تصالحنا مع قيمة الحق وأعطينا للتعليم قدره من الأهمية والهيبة والاستثمار في الإنسان والعقل والمعرفة.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع