بقلم: د. آمال موسى
ما هي العناصر التي تصوغ مقولاتنا وأفكارنا، وتصنع مواقفنا في نهاية المطاف؟
بتعبير مختلف قليلاً: ما الذي يحدد مسارات أنواع الخطاب ويضبط إيقاعها؟
نبسط أكثر: الخطاب المتداول اليوم في وسائل الإعلام العربية وفي الندوات وحتى في أحاديث المقاهي ووسائل التواصل الاجتماعي هو كيف يمكن القبض على المسكوت عنه فيه والمخفي؟ وهل إن المسكوت عنه في خطابات الأمس القريب جداً هو نفسه اليوم، أم أن المسكوت عنه نفسه يتغير ونحن قد لا نفطن لذلك؟
يبدو لي أن التعرية التي قام بها الفرنسي ميشال فوكو لنظام الخطاب جيدة جداً، ويمكن اعتمادها منطلقاً لمعاينة راهن كيفية تشكل الخطاب اليوم، وخاصة التعرف إلى التغييرات التي عرفها نظام الخطاب ومحركاته.
لقد ساعدنا فوكو كثيراً في تقديم خطة واضحة عندما وجهنا نحو ما يخضع له الخطاب في عملية إنتاجه، وهو ما سمّاه إجراءات المراقبة، وما يهمنا في هذا المقال هو الإجراءات الخارجيّة التي تستعمل من أجل إخضاع الخطاب للمراقبة، ويأتي على رأسها إجراء المنع كشكل من أشكال الاستبعاد الذي يشمل المواضيع الموصوفة بالمحرمة والمحظورة، مثل السياسة والدين وغيرها. هذا إلى جانب إجراءات أخرى تفيد إعلان الرفض والترويج لثقافة التصنيف التي تقوم على مسوّغات معيارية (خطأ – حقيقة – حرام – حلال...).
ميزة هذه الإجراءات الخارجية، كما يحدّدها ميشال فوكو، هي كونها تُمارس من خارج الخطاب. فالمجتمع بقيمه ومعاييره وكما صوره لنّا إميل دوركايم عالم الاجتماع الفرنسي تمارس مؤسساته الاجتماعية هيمنة خارجية على الخطاب؛ إذ الرفض والمنع والتصنيف هي أدوات المجتمع الثقافية الرمزية للهيمنة. لذلك، فإن الخطاب هو في بُعد من أبعاده نتاج اجتماعي رغم أن مؤلفه واحد ومراقبة المجتمع تصبح مادية وملموسة في مقولات الخطاب وألفاظه.
ما نلاحظه اليوم أن المجتمع كفكرة وكثقافة وكقيم وكأنا أعلى تراجعت أهميته وقوته في عملية إنتاج الخطاب. لا نستطيع أن نتحدث بثقة حالياً عن فكرة المجتمع المانع لخطاب حر ومتحرر من المسكوت عنه مثل السياسة والدين والجنس.
لنلقِ نظرة فضولية تأملية على الخطاب الإعلامي، وعلى خطابات الأحزاب والجمعيات والمثقفين، وما يجري الحديث عنه في المقاهي، وما يتم ترديده في وسائل التواصل الاجتماعي، سنلاحظ أن السياسة أصبحت الخبز الكلامي للجميع من دون استثناء والكلام في الدين ومفهومه أمسى أكثر جدلية وخلافية وتقلصت حواجز الخوض فيه، والجنس لم يعد محظوراً وشكل المدخل الحقوقي باباً مشرعاً للذهاب بعيداً في الدفاع غير المشروط عن حقوق كانت في الأمس ظواهر مارقة اجتماعياً.
إذن المجتمع فقد قدسيته. لم يعد المجتمع يمارس المنع والرفض والتصنيف على الأقل بالشكل الذي كان يمارسه.
طبعاً تختلف هيمنة المجتمع من مجتمع إلى آخر، والمحدد لحجم الهيمنة وقوته هو طبيعة علاقة الفرد بالمجتمع والمؤسسات وما طرأ عليها من تغييرات. الواضح أن التغييرات التحديثية التي عرفتها بلداننا في العقود الأخيرة أنتجت علاقة بين المجتمع والفرد لصالح هذا الأخير؛ وهو ما جعل من صوت الفرد عالياً ومتجاوزاً في حين خفت صوت المجتمع وظل مسموعاً في الأرياف وفي الأجيال غير الشابة.
هل نفهم من هذا أن المواقف والخطابات بشكل عام تجاوزت أشكال المنع الرمزي الذي كان يمارسه المجتمع أو لنقل بحذر الذي كان يمارسها المجتمع بقوة؟ نعتقد أن التغيير حصل في هذه المنطقة من نظام الخطاب تحديداً. فالمنع ظل قائم الذات وفاعلاً. ربما المشكلة تكمن في تحديد ماهيات المنع الجديدة. فالمجتمع الذي كان يمنع ويصنف ويرفض من خلال التربية والتنشئة الاجتماعية والثقافة والقيم التي يروج لها ويحرسها قد تم استبدال الفرد به، فأصبح الفرد يمارس الإجراءات نفسها، لكن من منطلقات مختلفة تتميز بالذاتية.
فاليوم كي تفهم الخطابات والمواقف ليس مفيداً البحث عن المجتمع وإكراهاته في شقوق الخطاب ومقولاته وكلماته. فالخطة، وإن حافظت على عناوينها الكبرى المتمثلة في إجراءات المنع والرفض والتصنيف التي يمارسها المجتمع رمزياً فيما نعلن عنه من مواقف وما نتبناه من أفكار، فهي خطة غيّرت أزقتها وشوارعها. فمن الثالوث المحرم انتقلنا إلى سلطة الآيديولوجيا والمصالح الفردية والحسابات الشخصية. فالهيمنة اليوم لمصلحة منتج الخطاب وصاحبه. الخطاب ما عاد وليمة يسجل فيها المجتمع سلطته المهيمنة، بل تحول إلى تكتيك مصالح اقتصادية ومادية وأداة للهيمنة الآيديولوجية المشبوهة المرجعيات والأجندات. ففي الوقت الذي أدى فيه التحديث وتنامي الفردانية وشيوع حقوق الإنسان وقيم المواطنة إلى إسقاط أسطورة الحتمية الاجتماعية والتقليل جداً من تأثيرها، تمكن الفرد من تنمية سلطته في عملية التواصل وتوظيف الخطاب في أشكاله وتمظهراته المعروفة وغيرها لتمرير مصالحه المركبة المعقدة، حيث من العسير جداً فك التعالق بين الرمزي والمادي فيها. وهذه الصعوبة هي التي تفسر ضعف الانتباه إلى من افْتَكّ عرش المنع والرفض والتصنيف من المجتمع بشكل يغلب عليه التمويه والقناع باعتبار أن الإخفاء آلية حماية للمصالح وللآيديولوجيا المدافع عنها برصاص الكلام. مع العلم أن المصلحة تسبق الآيديولوجيا، حيث اتضح ملياً في جل بلداننا كيف هيمن المادي على الثقافي الاجتماعي والآيديولوجي، وما الآيديولوجيا اليوم إلا قناع تتخفى وراءه الأطماع والمصالح وليس اعتقاداً فكرياً كما يجب أن تكون.