توقيت القاهرة المحلي 20:07:56 آخر تحديث
  مصر اليوم -

اللُّغز التونسي

  مصر اليوم -

اللُّغز التونسي

بقلم : آمال موسى

المفروض بالنسبة إلى بلد عرف ثورة وكتب دستور جمهوريته الثانية المدجج بالحريات الفردية والعامة، كما خاض غمار ثلاثة انتخابات شهد العالم بشفافيتها وبسيادة صندوق الاقتراع في نتائجها، أن يأخذنا الحديث عن تونس إلى ما يليق بهذا الحراك النوعي، فيكون الحديث عن المعجزة التونسية لا عن اللغز التونسي. ولكن الحراك المشار إليه وترسانة الحقوق والحريات ليسا كافيين على ما يبدو لحدوث المعجزة وانطلاق تونس في الطريق نحو التنمية والتقدم. هذا ما بينته تجربة تونس إلى حد الآن على الأقل. لذلك فإننا سنركز على اللغز ونترك الحديث عن المعجزة جانباً وإن كان اللغز نفسه يحمل بعض أسباب تأخر المعجزة التونسية.

طبعاً يبدأ اللغز من عدم حدوث المعجزة نفسها؛ لأن الكثير من شروط المعجزة توفرت باستثناء الإرادة. وهنا نفترض أن الخيبات السياسية المتتالية قد أطفأت حماسة ما بعد الثورة، وهي حماسة مثلت خميرة قلما يجود بها التاريخ الاجتماعي للبناء ولشحذ الهمم والعزيمة. وظل تفسير النكسة التونسية خاضعاً للآيديولوجيا، حيث يتهم الحداثيون والدساترة واليسار وما يسمى بشكل عام العائلة الديمقراطية، حركة النهضة تحديداً والإسلام السياسي عموماً بحدوث هذه النكسة وباختطاف الثورة وتحويل وجهتها بشكل لم يحسب له أحد حساباً فأصبحت تونس مجالاً مغرياً للولاءات وللأجندات الخارجية. ومن جهته يلقي الإسلام السياسي التونسي التهم على خصومه الذين انشغلوا بمحاولات إقصائه وزجوا بالبلاد في عدم الاستقرار السياسي الذي أضر بالاقتصاد وزاد في تدهور أحوال الشعب المعيشية.
وفي الحقيقة نحن أمام حيرة تونسية أكثر منه لغزاً وغموضاً. ومرد الحيرة أن تونس تعاني منذ سنوات من أزمة اقتصادية ومن هيمنة الاقتصاد غير النظامي ومن ارتفاع الأسعار ومن تدهور القدرة الشرائية ومن تعطل مؤسسات ضخمة ذات إسهام في ميزانية الدولة على غرار شركة فوسفات قفصة من دون أن ننسى تراجع قيمة العملة التونسية ومخزون تونس من العملة الأجنبية مما أدى إلى ظاهرة التضخم المالي... وفي مقابل كل هذه الإكراهات عالجت الدولة الأمر بسياسة جبائية قاسية ما فتئت تتفاقم باعتبار أن التنمية معطلة ولا حل أمام النخبة الحاكمة غير الاقتراض والترفيع في الجباية.
السؤال: كيف يمكن أن يتعامل العقل السياسي السليم مع هذه المشاكل وتراكمها المخيف؟
نعتقد أنه هنا يظهر اللغز وتكمن الحيرة؛ إذ إن العقل السياسي يبدو فيما يشبه القطيعة مع الواقع ومنشغل بالصراعات، وهو ما يجعل المشكل التونسي صعب الفهم. فالاقتصاد في انهيار متواصل ومؤسسات الدولة الثلاث لم تلتقط ضرورة التوحد في السياسة والهدف والتضامن من أجل معالجة الأزمات الاقتصادية. هناك إصرار على الصراع السياسي بدل الحكم سوية بالشكل الذي يحدده الدستور. فلا الأزمة المالية استطاعت جمع شمل الطبقة السياسية الحاكمة ولا أزمة الكورونا وارتفاع عدد الوفيات بسبب الوباء وتزايد أعداد المرضى به نجح في إحداث لحظة اليقظة.
يعيش الشعب التونسي بين أخبار موتى الكورونا والمتضررين اقتصادياً من انتشارها وبين أزمات سياسية تعمق أزمة الثقة بين الشعب والنخبة السياسية الحاكمة، حيث مشكلة التحوير الوزاري التي أظهرت ضعف الوعي السياسي بأولويات البلاد الراهنة، خصوصاً تأخر الحكومة في تأمين الحد الأدنى من اللقاح للتونسيين. أي أن انشغالات الساسة بعيدة عن انتظارات التونسيين الراهنة: الشعب يتوقع حلولاً لانتشار الكورونا وللبطالة وللصحة، والطبقة الحاكمة تقرر إعفاء وزراء والقيام بتحوير وزاري وشجارات في مجلس النواب وأخبار عن طرد فيه مادة سامة تم إرساله إلى مؤسسة الرئاسة... والنتيجة أن التونسيين أمام كل التحديات التي يعيشونها تتأكد في أذهانهم فكرة ضعف الدولة العريقة في تونس، وذلك بفعل الانشقاقات بين مؤسسات الدولة الثلاث والأحزاب السياسية وصعوبات التأقلم مع النظام البرلماني في بلد عاش أكثر من نصف قرن في نظام رئاسوي.
إذن الواقع يطالب بالمعالجة والالتفاف والوحدة والرد السياسي هو الصراع.
وتقودنا مؤشرات اللغز التونسي إلى التساؤل عن أسباب غياب إرادة إنقاذ الأوضاع والانخراط في صنع الحلول وإيجادها؟ ويجرنا هذا السؤال إلى غيره، حيث يفترض واقع الدوران في حلقة مفرغة أن الاستقرار السياسي في تونس لا يصب في مصلحة كافة الفاعلين السياسيين. بمعنى أن هناك إرادة مهيمنة تسعى إلى بقاء تونس في حالة من عدم الاستقرار وعدم الانفراج الاقتصادي.
ولكن هل أن الطرف السياسي المستفيد من وضعية تونس الشبيهة باللغز باستطاعته إطالة هذه الوضعية أكثر والحال أن الشباب انخرط في احتجاجات صادمة شكلاً وتعبيراً منذ أسابيع؟
عندما تنشغل الطبقة السياسية بما يتجاوز مشاكل البلاد الداخلية وتمارس سياسة الصم السياسي، فإن التاريخ السياسي المعروف يعيد نفسه من دون ملل.. تاريخ امتلاء الكأس وبلوغها القطرة التي ستفيض بعدها.
الكبار في تونس منشغلون بالتجاذب الآيديولوجي وهم يتشاجرون في المكاتب والبرلمان، والشاب الذي كان طفلاً عندما اندلعت الثورة في 14 يناير (كانون الثاني) 2011 غير معني بكل الانتماءات الآيديولوجية ويعبر عن نفسه بشكل كشف للتونسيين عمق الهوة بين الشعب والطبقة السياسية وطول المسافة في النظرة إلى الواقع والأشياء بين الشباب والأجيال التي تكبره.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اللُّغز التونسي اللُّغز التونسي



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 09:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يفتح آفاقا جديدة في علاج سرطان البنكرياس

GMT 08:28 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 01:54 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أغنياء المدينة ومدارس الفقراء

GMT 09:59 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

نجوى كرم بإطلالات استثنائية وتنسيقات مبهرة في "Arabs Got Talent"

GMT 10:29 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

شريف مدكور يُعلن إصابته بفيروس يُصيب المناعة

GMT 12:37 2019 الأحد ,20 كانون الثاني / يناير

طبيب الأهلي يعلن جاهزية الثلاثي المصاب للمباريات
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon