بقلم: د. آمال موسى
هناك مشكل كبير في فهم اللعبة الديمقراطية وفي إنتاج رؤية موضوعية وواقعية تجاه كيفية مقاربتنا لمسألة الديمقراطية وإدراك تحديّاتها وشهقات المسار الذي لا مفرّ من المرور به.
وكي لا يظل حديثنا عاماً، فإننا سنعتمد المثال التونسي أساساً لطرح الالتباسات التي تعرفها التجربة الديمقراطية في الفضاء العربي بشكل خاص، وأكثر من أي فضاء ثقافي سياسي آخر.
طبعاً لا داعي من ترديد الأبجديات المعروفة عن الديمقراطية، وتحديداً تلك التي تركز على كونها تجربة تتنامى مع الوقت وتنضج، وأيضاً فكرة أننا نتربى شيئاً فشيئاً على الديمقراطية، مع ما يرمز إليه مفهوم التربية من وقت طويل ومن تجربة ومن تنشئة قيمية تُنتج عقلية وأنماط سلوك ديمقراطية.
فالظاهرة الجديدة حالياً تتمثل في الإصرار خطابياً على الديمقراطية وفي الوقت نفسه رفض شروطها التي تقوم عليها. وكما نرى، فإن هذا الوضع المركب إشكالي، ولا يسمح بالمضي قدماً في التجربة الديمقراطية.
هيمن في البداية نقاش حول الديمقراطية والشعبوية، خصوصاً بعد فوز الرئيس قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية بنحو 3 أرباع الناخبين التونسيين، وهو المستقل الذي لا حزب وراءه. وأثار شعار «الشعب يريد» انتقادات وجدلاً، وظهر خطاب في المقابل يرفض نتائج صناديق الاقتراع، وهو خطاب تزعمه مثقفون يدركون بينهم وبين أنفسهم خطورة مثل هذه الدعوة، وكم هي غير ديمقراطية. فالقبول بنتائج الاقتراع هو مبدأ أساسي في التجربة الديمقراطية، وبدون ذلك فهو الانقلاب حتى لو كان رمزياً.
ذلك أن من دروس الديمقراطية القبول بالنتائج الانتخابية والخضوع لإرادة الغالبية، مع ما يعنيه ذلك من قبول للاختلاف ولشروط اللعبة الديمقراطية التي قد تكون لصالح قناعاتنا وقد تناقضها. وإذا كانت النخبة ترى أن الشعب أساء الاختيار وكثيراً ما تسيء الشعوب الاختيار، فذلك يعني رفع رهانات خارج التجربة الديمقراطية السياسية، والاشتغال ثقافياً وتعليمياً على كيفية النهوض الفكري والثقافي بالشعب حتى تتوفر فيه خصائص الاختيار العقلاني وحتى تتغلغل فيه قيم المواطنة والمدنية، وتصبح حاجة وشرط وجود اجتماعي وسياسي.
صحيح أن هذا مرهق، ويتطلب وقتاً وزمناً، لكن لا خيار غير ذلك إذا اخترنا الديمقراطية نظاماً في الحكم وفي التعايش داخل وطن واحد. كما أنه من حق الشعوب الحديثة العهد بالديمقراطية وبالحرية السياسية أن ترتكب الأخطاء، وتسيء الاختيار، وتراهن على حزب بعينه ثم تخسر وتتعلم من أخطائها... وهكذا تتراكم معرفة الشعوب بنخبها السياسية وتكتسب معرفة عملية. طبعاً هناك تكلفة تدفعها الشعوب وراء سوء الاختيار فتخسر الوقت وتتراجع الأوضاع الاقتصادية، ولكن متى كان التعلم من دون تكلفة؟ فحال الشعب كحال الفرد يخسر ويفشل ويُحبط كي يفهم الحياة ويعرف الناس ومعادنها. لذلك فإن الدعوات إلى إعادة الانتخابات مثلاً هي انقلاب صريح ضد نتائج الانتخابات الحاصلة، والدخول في مثل هذا النهج هو اعتداء على النمو الطبيعي للتجربة الديمقراطية عند شعب ما.
أيضاً في الأسابيع الأخيرة عرفت الأحزاب في تونس حالة من الرفض الشديدة للأحزاب، بلغت ما يشبه الكفر بوجودها والتشكيك في وظيفتها. وهنا نتساءل كيف يمكن خوض الديمقراطية من دون أحزاب؟ أليست الديمقراطية هي ما عبّر عنه عالم الاجتماع الإيطالي باريتي بدوران النخب على الحكم؟
فمنذ سنوات طويلة، حتى في الديمقراطيات العريقة، بات يطرح موضوع الأحزاب وتراجع دورها، ولكن الفضاء الثقافي الأوروبي ركّز على معطى مختلف، وهو كيفية فكّ الارتباط بين التحزب والآيديولوجيا، أي أن عالم اليوم ما عاد يحتمل أحزاباً مؤدلجة. في مقابل ذلك، وبحثاً عن السهولة في كل شيء، كان التوجه في تونس نحو إقصاء الأحزاب الممثلة في البرلمان بناء على توزيع حددته صناديق اقتراع الانتخابات الأخيرة، ورفع الجميع شعار؛ لا للأحزاب، والدعوة إلى حكومة مستقلة عن الأحزاب.
وكي نفهم ما تتضمنه هذه الدعوة من سريالية، نذكّر بأن النظام البرلماني وأي حكومة تفك الارتباط بالأحزاب ولا تعترف بها هي بحاجة إلى مصادقة الأحزاب في البرلمان، ومحتاجة إلى البرلمان للمصادقة على مشروعات القوانين التي تقدمها الحكومة لإنجاز برامجها.
نقول هذا الكلام، ونحن مدركون جيداً كم الإحباط الذي تسببت فيه هذه الأحزاب، وأيضاً ضعف أدائها وانشغالها في الصراعات الضيقة. بل إن الذهاب في خيار إقصائها يستبطن خضوعها والتصويت القهري لصالح حكومة مستقلة عن الأحزاب. وهذا وارد جداً، ولكن إلى أي مدى يمكن أن يستمر فرض حكومة قامت على تهميش الأحزاب ومعاقبتها خارج صناديق الاقتراع إلى تاريخ الانتخابات القادمة؟ ولصالح من تبني خيارات تفتقد إلى الحد الأدنى من الاستقرار من جهة، ولن تمكن الحكومة المستقلة عن الأحزاب من العمل والإصلاح من جهة ثانية.
وكلما حاولنا تقليب الحلول والخيارات نصطدم بمشكل أكثر خطورة. لذلك فالحل هو في جعل الشعوب تمارس حقها في الرهان على الجميع وتعرية كل النخب السياسية لتختار في الانتخابات القادمة وهي عارفة ودفعت ثمن ما عرفته.
صناديق الاقتراع تجيد إنزال العقاب اللازم أكثر من الجميع، ولكن بعد حين.