بقلم:د. آمال موسى
لا نختلف كثيراً إذا جزمنا بكون التجديد الفكري في الفضاء الثقافي العربي قد بات ضرورة حتمية. كما أنه ليس صعباً ملاحظة حالة التكلس الفكري وعدم تقدير ما تستوجبه اللحظة العربية اليوم من أداء فكري يقطع مع ما سبق في مستويات عدة.
فمن سنوات طويلة والواقع العربي المتحرك بسرعة سابق لأطروحات الفكر العربي التي لا تزال حبيسة إشكاليات لم تعد هي ذات الأولوية رغم أهميتها.
إذن ما يمكن تسجيله مبدئياً هو حتمية اضطلاع النخب الفكرية في المجتمعات العربية بتجديد فكرهم حتى تتم إعادة بناء العقل على نحو يسمح ببلورة عقل علمي عربي.
غير أن عملية التجديد المقصودة تحتاج بدورها إلى عمليات تجديد سابقة تمهيدية تشمل التجديد في اللغة، وفي الرّهان على الفلسفة، الحقل الأقدر على دقة صياغة الأسئلة، إضافة إلى أنّها ستكون أداة قياس وامتحان لمدى تخلص العقل من موانع التفكير الحر والنّقدي. فاللغة نظراً لما تمثله من نظام للتفكير تُحدده المفاهيم والمعاني تحتاج إلى تغيير ثقافي من الجذور، حيث إنّه لا يمكن تجديد الفكر بلغة قديمة ومحافظة، ولن يتم استيعاب مضامين جديدة من عقل تحكمه معانٍ من خارج معاني التجديد ذاته. وفي هذا الصدد فنحن نحتاجُ إلى معجم واضح ودقيق وثوري، ودونه لن يكون التجديد إلا خطاباً أجوف.
من ناحية أخرى، لا يستقيم التجديد وواقع الفلسفة في العالم العربي يعاني من التهميش وضعف الرهان، ولا أدل على ذلك حال أقسام الفلسفة في العالم العربي. ذلك أن إعادة صياغة الأسئلة وصياغة الأسئلة الجديدة هي من أولويات التجديد الفكري، وهي مرحلة مهمة جداً باعتبار أن الإخفاقات التي عرفها الفكر العربي هي في جزء منها نتاج طبيعة الأسئلة التي اهتم بها على غرار مسألة التجديد الديني التي استأثرت بقسط وافر من البحوث والمشاريع الفكرية، إضافة إلى ما تم إنفاقه من جهد أيضاً في ثنائيات الأصالة والمعاصرة والهويّة، وهي كلها أسئلة مهمة، ولكن لم تحسم منطلقات الخوض فيها، وظل التفكير فيها مطبوعاً بانفصامية وتردد، وهي على منوال أطروحات الفلاسفة الدينيين التي انتقدها رمزا التفكير العلمي الوضعي في أوروبا، وهما روني ديكارت وفرانسيس بيكون، في حين أن الثورة العلمية الأوروبية حسمت أمرها مع فرانسيس بيكون الذي حلل بوضوح الأوهام الأربعة التي تعيق أي عقل عن الإبداع والتجدد. ولكن فيما يخصنا لم نستطع الوضعية والتجارب القليلة التي اتخذت العلمنة والعقلنة طريقة للتفكير قد اتهمت بالتغريب ولم تتمكن من التأثير إلا في البعض من طلبتها وقرائها القلائل.
أيضاً يبدو لنا أن جائحة «كورونا» بما كشفته من حقائق مختلفة أهمها أن الطبيعة استعادت نسبياً سطوتها على الإنسان، وأن العلم لم يقهر الطبيعة كما ذهب في ظننا، إنما تمثل هذه الجائحة حافزاً للانخراط في تجديد الفكر العربي على أسس العلمنة والعقلنة والتحرر من مكبلات لطالما مثلت عائقاً أمام تحرر العقل العربي، الأمر الذي أطال إقامتنا في حضارة اللفظ، ولم ننتقل كما يجب إلى حضارة الفعل والإنجاز والابتكار. طبعاً لا ننسى أن العرب في لحظة تاريخية سابقة قطعوا خطوة في طريق التجريب ولم يذعنوا للتنظير فقط، حيث اعتبروا أن الملاحظة والتجربة يمثلان مصدر البحث والتقدم العلمي. وبناء عليه يمكن الاستنتاج أن العرب اتبعوا في إنتاجهم العلمي الاستقراء والملاحظة للوصول إلى نتائج علمية.
من هذا المنطلق نشير إلى أن تجديد الفكر العربي يبدأ ويتمثل أيضاً في إصلاح طرائق التفكير وأساليبه، وفي نقد الأساليب القديمة للتفكر. ونعتقد أن الاستنجاد بنظرية الأوهام الأربعة لفرانسيس بيكون قد تكون مفيدة؛ إذ دعا في كتابه «نقد العقل» إلى تخليص العقل من الأوهام التي تعيق التفكير السليم حتى يستطيع التوجه نحو المعرفة الصحيحة التي هي حسب اعتقادنا أساس تجديد الفكر، وضمان حسن التلقي والتواصلية الإيجابية مع أطروحات تجديد الفكر. وإذا ما تمعننا في الأوهام الأربعة التي اعتبرها بيكون من أهم معوقات التفكير العلمي، سنجد أن الفكر العربي في الوقت الراهن يعاني من وجود مثل هذه العوائق وهيمنتها بشكل يمنع صراحة التجديد الفكري العربي. ويمثل الوهم الأول فيما سمّاه أوهام الجنس البشري، وهي أكثر أنواع الأوهام انتشاراً بين البشر، وتعود إلى طبيعة العقل البشري الذي يتوهم أحياناً وجود أشياء ليس لها في الواقع وجود. ووفق هذه الأوهام يتم فرض الميول الذاتية للإنسان على الأشياء وتصبح من المسلّمات، وهي عادة قوالب جاهزة وأفكار مسبقة يتربى عليها في تنشئته الاجتماعية. أما الوهم الثاني حسب فرانسيس بيكون فهو أوهام الكهف، وهو نوع يخص الفرد ونظرته إلى الأشياء التي هي نتاج عملية التنشئة ومن كيفية تفاعله مع مضامين التنشئة الاجتماعية التي تلقاها من مؤسسات التنشئة. يعتبر فرانسيس بيكون أن أوهام الكهف أخطر أنواع الأوهام، واكتشاف الحقيقة مرهون بالتحرر من أوهام الكهف الخاصة بالإنسان الفرد. ويتعلق الوهم الثالث بأوهام السوق ذات العلاقة باللغة، والاستعمال الخاطئ للكلمات بالنسبة إلى بيكون يعيق العقل ويحيطه بالمغالطات. ويعود نوع الوهم الرابع إلى أوهام المسرح حيث التعامل مع المعارف السابقة بنظرة مقدسة. وهي أوهام ناتجة عن معتقدات خرافية وقواعد مغلوطة للبرهان.
إن تجديد الفكر العربي ضرورة حتمية يفرضها الواقع العربي الذي ما عاد يتحمل الاعتمال بميكانيزمات مهترئة وتجاوزها العصر. ولما كان من الصعب الإقلاع في عملية التجديد دون معالجة الأوهام المانعة فإن المضي قدماً في مسار تأمين شروط التفكير العلمي هو الخطة المثلى، ونفترض أن الظروف الراهنة مواتية لعملية التجديد الفكري لأن العالم اليوم شبكي العلاقات، وينتظم التشبيك وفق مؤشرات وتوافقات حقوقية دولية وفرت شيئاً من الحرية التي يمكن استثمارها في معالجة الأوهام من جهة، وفي الانخراط في عمق التجديد من جهة ثانية.