بقلم: د. آمال موسى
يقال إن رأس المال جبان، وإن مَن يمتلك المال يمتلك الخوف أيضاً، لذلك نرى رجال الأعمال يتميزون بالحرص ولا يدفعون مليماً واحداً إلا إذا تأكدوا من أنه سيعود إليهم أضعافاً مضاعفة وأن كل الضمانات حاصلة.
هذه تقريباً الفكرة المتداولة عن أصحاب رؤوس الأموال، وهي حسب اعتقادنا قابلة للنقاش ولها استثناءات تجعلها نسبية، إذ إن هناك من رجال الأعمال ونسائها مَن امتازوا بالمغامرة والجرأة ونجحوا أكثر من غيرهم من أصحاب رؤوس الأموال الذين لا يتحركون إلا فيما هو محسوب ومدروس النتائج سلفاً.
وتبقى في عالم المال والأعمال أهمية الدراسة الدقيقة لأي مشروع بما فيها الأوضاع السياسية التي أصبحت اليوم من أهم الدوافع الطاردة للخوف أو الجاذبة له.
فهل أن ما ينطبق على عالم المال والأعمال يسري أيضاً في عالم السياسة؟ هل أن الخوف عامل إيجابي في ممارسة السياسة؟ إذا كان الخوف بالنسبة إلى رجل الأعمال دليل رصانة وتثبت وحرص، فهل الخوف يمكن أن يقدم الأدلة ذاتها عن السائس؟
نعتقد أن السياسة هي عالم الشجاعة بامتياز. فالسياسي يتخذ القرارات الحاسمة والسريعة ويتعامل مع الآني بشكل يتطلب منه وجوباً إصدار القرار المناسب بلا أي تأخير. لذلك فإن السياسي يجب أن يتصف بالحنكة والحكمة والذكاء والجرأة والكاريزما، خاصة الشجاعة.
يمكن للسياسي اليوم أن تعوزه الخبرة إذا كان شاباً أو كهلاً، ولكن الذكاء يحتم عليه الاستعانة بمن يمتلكون خبرة الدولة ومارسوا الإدارة في دواليبها العليا وعرفوا في تاريخهم السياسي أحداثاً مهمة أكسبتهم تجربة وخبرة ثمينة. بمعنى آخر فإن الخبرة والتجربة السياسية يمكن تعويضهما بحسن اختيار الفريق الذي سيدير الدولة وطاقم المستشارين، ولكن الشجاعة هي خصلة تسكن في السياسي ذاته ولا يمكن تعويضها ولا اقتناؤها من السوق.
وإذا ما تصفحنا تجارب كبار السياسيين في العالم من بعد الحرب العالمية الثانية مثلاً إلى اليوم سنجد أن الذين نقشوا أسماءهم في الذاكرة هم الذين تميزوا بالكاريزما والشجاعة، وهو ما يسمح لنا بالاستنتاج أن السياسي الجيد والناجح وصاحب البصمة الحقيقية في تاريخ شعبه هو السياسي الشجاع.
طبعاً لا يفوتنا الإشارة إلى أن الصعاب والعراقيل هي التي تجعل من شرط الشجاعة ضرورة. ومن ثم فإن من يفتقد شجاعة اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية من الخطأ العظيم أن ينخرط في السياسة ويتقدم إلى الصف الأمامي حيث القيادة والقرارات.
ووفق هذا المنظور الذي يربط السياسة بالشجاعة ويميز بين الشجاعة والتهور، يبدو لنا أن السائس في البلدان العربية يحتاج أكثر من السائس الأوروبي مثلاً إلى الشجاعة. فنحن نواجه اليومي الداخلي والخارجي وفي نفس الوقت ما زلنا في قلب معركة الانتقال إلى الحداثة وصراعات التغيير الاجتماعي القاسية والدامية أحياناً.
أيضاً في هذه اللحظة السياسية التي تعرف فيها الشعبوية صيتاً ذائعاً، تصبح شجاعة السائس في تعديل هذه الشعبوية وأحياناً التصادم معها ضرورة لا غنى عنها كي لا يجد الشعب نفسه مع مرور الوقت في سيناريوهات مظلمة وعويصة.
فالشجاعة تساعد السائس على أن يكون وطنياً صادقاً، وأن ينصت لصوت العقل ولما فيه مصلحة الشعب التي قد لا تظهر في الحاضر. فعندما يكون الحل في تخفيف كاهل ميزانية الدولة من المؤسسات المفلسة، فإن القرار السياسي يجب أن يواجه الحقيقة بشجاعة ويفسح المجال للخوصصة المدروسة ومنح المؤسسات المُفلسة في صيغتها العمومية فرصة الانتعاش على يد رأس المال الخاص.
وأيضاً عندما تكون الدولة مثقلة بالديون وتدفع مرتبات الموظفين من مداخيل الجباية، فإن عدم انتداب موظفين جدد هو الحل الأمثل لأن استسهال الانتدابات والاستثمار معطل هو نوع من الانتحار البطيء للدولة.
وفي بلداننا المغاربية والعربية والإسلامية اليوم هناك قرارات قاسية في شتى المجالات لا بد منها. وهنا تأتي أهمية الشجاعة في إيقاف النزيف وفي غرس العقلانية.
طبعاً لا يعني الركون للخيارات اللازمة مهما كان سقف الرفض عالياً، هو كل ما في الشجاعة من رسائل. بل إن السائس الشجاع هو الذي يصدم إذا اقتضى الواقع ذلك، ولكن في الوقت نفسه يقدم البدائل لأن وظيفة السياسي هي إيجاد الحلول ومعالجة الأزمات والمشكلات.
ما نلاحظه في بلداننا هو أن غالبية النخب الحاكمة تتميز بالواقعية في إدارة الأزمات خارج حدود الوطن الواحد، وهو ما يعني أن الواقعية السياسية في السياسة الخارجية أكثر تجذراً مقارنة بممارسة السياسة داخل الوطن، حيث نلحظ أن السياسي العربي يضع اعتبار رد الفعل الشعبي الآني ويؤجل المواجهات إلى أجل غير مسمى، والحال أن اتخاذ القرار الشجاع الضروري ومعالجة تداعيات القرارات القاسية على المتضررين منها، هو السياسة الصادقة وهذه هي المسؤولية السياسية.