بقلم : آمال موسى
بعد غد الاحتفال باليوم العالمي للمرأة الذي يعد من أكثر الأيام الدولية عراقة؛ إذ يعود إلى قرابة القرن. وطبعاً مثل هذه الأيام الدولية مهمة جداً؛ لأن طابعها الدوري يتيح لنا فرصة المقارنة ومعاينة المنجز من سنة إلى أخرى، ومعاودة ضبط المنشود في ضوء المتحقق. وربما من النقاط المثلجة للصدر رغم كل ما يعصف بمجتمعاتنا من تحديات وتوترات مختلفة الروافد والأشكال، أن قضية المرأة عرفت حراكاً نوعياً في السنوات الأخيرة، أسهمت فيه عوامل عدة، لعل أهمها مسألة الانخراط المختلف الخطوات من بلد إلى آخر في ترسيخ قيم المواطنة؛ إذ إن هذه الأخيرة حسب اعتقادنا أكبر مدافع عن المرأة من منطلق أنها تشترط عدم التمييز على أساس الجنس.
طبعاً المنجز لم يعد يعنينا، والجدير بالكتابة والطرح هو المنشود أو ما نراه من ظواهر معطلة لتطور وضعية المرأة في بلداننا. لذلك؛ قد يكون طرح موضوع ما يحف بدراسات الجندر في جامعاتنا وأطرنا الثقافية من انتقادات وشكوك وتوجس نعتقد أنه نوع من الحرب المجانية التي تقف وراءها محركات آيديولوجية.
ما أن ما يصفه البعض بظاهرة التهافت على الدراسات الجندرية والتسابق بين الأقسام في الجامعات العربية لإحداث ماجستيرات حول الجندر يمكن أن ننظر له بشكل إيجابي لو يتم التخلص مع الباعث الآيديولوجي على الرفض؛ إذ إننا فعلاً في حاجة إلى هذه الدراسات بلفت النظر عن الموجة العالمية وما قد يتسرب من هذه الموجة من تحويل وجهة أحياناً. فالأمر بسيط للغاية والدراسات الجندرية هي موضوع من موضوعات علم الاجتماع، وتبحث عن الفروق الاجتماعية بين الجنسين. وكما نعلم، فإن الجندر أو النوع الاجتماعي يعدان من المفاهيم المعاصرة؛ إذ إن عالم النفس روبرت شولر هو من صاغه في الستينات من القرن الماضي؛ وذلك لتمييز المعاني الاجتماعية والنفسية للذكورة والأنوثة عن الأساس البيولوجي. وقامت آن أوكلي باستعارته منذ ثمانية عقود لتوظيفه في علم الاجتماع في سياق من الأبحاث دعت فيها إلى ضرورة التمييز بين الفروق الجنسية البيولوجية والفروق الاجتماعية، واليوم أصبح من أكثر المفاهيم تواتراً في الخطاب السوسيولوجي الذي يعالج العلاقة بين الجنسين والأسرة... وقد يكون من المهم الإشارة إلى أن ما تدعو إليه النظرية النسائية ليس هو نفسه تماماً ما يناضل من أجله مفكرو النوع الاجتماعي؛ إذ إن النظرية النسائية تضع اهتماماتها مسألة توزيع السلطة والموارد بين النساء والرجال والصور والرموز للجنسين، في حين أن طروحات الجندر ترصد التمايزات في الفعل الاجتماعي على أساس الجنس وتحفر فيما بناه المجتمع من فروق اجتماعية بُنيت بدورها على أساس بيولوجي محض. أي أن نظرية الجندر تبحث في الفروق والتمايزات وأشكال التمييز والهيمنة والسلطة التي تستند إلى شرعية بيولوجية جنسية، تجعل من الاجتماعية ثابتة كما الفروق البيولوجية، والحال أنها متغيرة لأنها من تشكيل المجتمع الذي يخضع هو أيضاً إلى عملية تغير ثقافي قيمي ويتجدد أنموذجه الثقافي بتعاقب الأجيال والتفاعلات التي تحصل في الواقع الاجتماعي والتحولات التي تعرفها مؤسسات التنشئة الاجتماعية المتحكمة في طبيعة الأدوار والخصائص النفسية للفاعلين الاجتماعيين.
ومن أعلام الجندر نذكر الفرنسية سيمون دي بفوار التي تكشف أفكارها عن انحياز نحو النظرية المادية التاريخية؛ فهي تقول إنه بخصوص دور كل من الجنسين فهناك اختلاف في الآراء. فكانت هذه الآراء خالية من كل أساس علمي ولا تعكس سوى تصورات اجتماعيّة. بل إنها تجزم في شكل قناعة راسخة بأن المقارنة بين الأنثى والذكر في النوع البشري لا يمكنها أن تتم إلا من الزاوية الإنسانية ولا يعرف الإنسان إلا بأنه كائن غير معطى، وأنه يضع نفسه بنفسه ويقرر ما هو عليه. وعليه؛ فإن أخلاق المجتمع عند سيمون دي بوفوار لا تستخرج من البيولوجيا، بل إن هذه الأخيرة عاجزة عن تأسيس القيم. لذلك؛ فهي تقر في صياغة واضحة مكثفة بأن الإنسان لا يولد امرأة، بل يصبح امرأة. أي أن الحديث عن المرأة أو الرجل هو حديث سوسيولوجي محض.
من هذا المنطلق المعرفي التاريخي، فإن مجتمعاتنا محتاجة إلى هذا النوع من الدراسات وإلى تكوين أكثر ما يمكن من الإطارات القادرة على قياس الفروق الاجتماعية بين الجنسين. كما أن الحاجة حيوية جداً إلى نتائج هذه الدراسات وملاحظاتها وتحليلاتها كي نفهم مجتمعاتنا أكثر؛ إذ الفروق ثقافية وتطال المخيال والتمثلات ثم تتجلى سلوكاً، دون أن يفوتنا أن الحديث عن التغيير الثقافي القيمي في أي مجتمع لا يمكن أن يقفز على مسألة الفروق الاجتماعية بين الجنسين وكيفية توزيع الأدوار في المؤسسات بدءاً من الأسرة، وصولاً إلى مؤسسات الفعل السياسي بشكل يعطينا فكرة واضحة علمية عن الفاعلين الاجتماعيين حسب متغير الجنس.
إن هذه الحرب غير المعلنة ضد المنشغلين بدراسات الجندر لا يمكن أن تكون إلا حرباً في خدمة الرجعية من جهة وضد الفهم من جهة ثانية.