توقيت القاهرة المحلي 14:42:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مجتمعاتنا والعلمنة اللينة

  مصر اليوم -

مجتمعاتنا والعلمنة اللينة

بقلم: د. آمال موسى

رغم أن مؤلفات الباحثين في عالمنا العربي والإسلامي الذين انكبوا على مسألة العلمانية بحثاً وتنقيباً وحفراً وتحليلاً أكثر من عدد أصابع اليدين وأغلبها من المؤلفات المهمة والمرجعية، التي تعكس جهداً علمياً دقيقاً وجاداً وعلى رأس هؤلاء نذكر الراحل عبد الوهاب المسيري والدكتور عادل ظاهر، إلا أن الالتباس ظل قائم الذات ولم يهتم الخطاب الإعلامي بمراجعة توظيفه لهذا المفهوم الذي لاحظنا أنه بدأ يعرف كثافة في الاستعمال.
فالعلمانية ليست الإلحاد كما يُسوق البعض ولا تعني أيضاً العلم بل هي مشتقة من كلمة العالم. وبأكثر دقة نقول إن كلمة العلمانية مشتقة من الكلمة اللاتينية «سيكولوم» وتعني العصر أو الجيل أو القرن. وقد استخدم مصطلح «سكيولار» لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين عاماً في سنة 1648 عند توقيع صلح وستفاليا وبداية ظهور الدولة القومية، وهو التاريخ الذي يعتمده المؤرخون للتأريخ لظاهرة العلمانية في الغرب. ويعتبر جون هوليوك (1817 - 1906) هو أول من سك المصطلح بمعناه الحديث، وحوله إلى أحد أهم المصطلحات في الخطاب السياسي والاجتماعي الفلسفي الغربي، فعرف العلمانية بأنها الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية من دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض.
أيضاً من المهم الإشارة إلى نقطة أخرى وهي ارتباط نشأة الحركات العلمانية في الغرب بالتخلص من هيمنة الكنيسة على شؤون السياسة وتحرير السلطة السياسية من أي تأثير مباشر أو غير مباشر من قبل السلطة الدينية، المتمثلة في سلطة الإكليروس. فالعلمانية معنية بدور الإنسان في العالم، وبتأكيد استقلالية العقل الإنساني في سيرورة توظيف الإنسان للعقل في أي من المجالات التي يوظف فيها. وفي فرنسا في القرن الثامن عشر أصبحت كلمة «العلمانية» تعني - كما بين ذلك مفكر العلمانية الراحل المصري عبد الوهاب المسيري - من وجهة نظر مجموعة المفكرين الفرنسيين المدافعين عن مثل الاستنارة والعقلانية المادية بأنها المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة. وقد تحققت أبرز محطة في تاريخ العلمانية في القرن التاسع عشر عند إعلان الجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1879 أن غالبية البرلمان كانت من العلمانيين، الأمر الذي أدى إلى ترسيخ العلمانية في فرنسا ووضع حد لسلطة الكنيسة.
لماذا كل هذه الديباجة عن العلمانية؟
في الحقيقة نهدف من وراء الإطالة في هذا التعريف انتهاز فرصة تعريفه علمياً وهو الذي يستعمل بكثرة اليوم في وسائل الإعلام وفي المعارك الحزبية بين الميولات الآيديولوجية المختلفة والمتصارعة. من جهة ثانية فإننا نرى في إيضاح مفهوم العلمانية مدخلاً لا بد منه للحديث بشكل موجز عن مظاهر العلمنة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
من الملاحظات المهمة، التي توقفنا عندها في المقالات السابقة تأثير جائحة فيروس الكورونا على الممارسات الثقافية والاجتماعية وركزنا على تغير سلوك الناس إزاء مراسم دفن الأموات والقبول بعدم الصلاة في المساجد. فمثل هذه السلوكيات الانقلابية على أنماط السلوك الاعتيادية والمتوارثة جيلاً بعد جيل، إنما تنضوي في إطار مظاهر العلمنة. ذلك أنه لولا توفر الاستعداد للعلمنة وبداية تجذر النظرة العلمانية وإعلاء شأن الحياتي الدنيوي، لوجدت الحكومات مقاومة ورفضاً. ولكن الملاحظ أن السلوك كان متعاوناً وليناً وامتثالياً ولم يكن بالإمكان أن يكون كما وصفناه لولا توفر النزعة والأرضية العلمانية لذلك.
فهل أن ما أظهرته جائحة كورونا من نزعة للعلمنة في السلوك هو فقط نتاج الخوف من الموت؟
طبعاً الحسم بشكل قاطع ليس سهلاً. قد يكون للخوف من الموت بعض النصيب ولكن التفسير العقلاني يُلزمنا بوضع ما تمت ملاحظته من تطبيع مع العلمنة السلوكية في إطار سياسات التحديث المختلفة الوتيرة التي خاضتها الدول العربية بعد الاستقلال. ولا يخفى صلة القرب المدلولية والرمزية بين الحداثة والعلمانية، حيث إن هذه الأخيرة ثمرة من ثمراتها.
لذلك يمكن الاستنتاج أن العلمنة أصبحت عنصراً من العناصر المنتجة للسلوك الاجتماعي في الفضاء العربي وعاملاً من العوامل المحددة له.
لا شك في أن هناك فرقاً شاسعاً وعميقاً بين ما وصفناه قصداً بعض مظاهر العلمنة اللينة والعلمنة الصلبة كما هي في الفضاء الثقافي الأوروبي. فالعلمنة الكاملة والصلبة هي التي تفصل بين جميع حقول الفعل الاجتماعي والدين، بينما ملاحظاتنا تندرج ضمن نوع من رصد لحظات فك الارتباط بين مواقف شديدة التعقيد (مثلاً الذهاب إلى المسجد في أوج انتشار الفيروس مع ما يعنيه ذلك من انتحارية في السلوك) والتعاليم الدينية.
من ناحية أخرى للعلمنة الجزئية اللينة حضور أيضاً في بعض البلدان العربية، حيث مظاهر الفصل النسبي والجزئي بين الدين والسياسة بدأت تظهر ونعتقد أنها في طريقها إلى مزيد من التنامي لأن قيماً مثل المدنية والمواطنة لها شروط ومسارات من التحقق تقود بالضرورة إلى تطبيق قسري وآلي لبعض مبادئ العلمانية الجزئية التي يمكن اعتبارها المرادف لمفهوم اللائكية.
إن المحن مرايا نرى فيها ما لا يُرى في سائر الأوقات العادية. ولقد مثلت محنة فيروس كورونا فعلاً خزاناً من الملاحظات الجديرة بالتعمق في بحوث ودراسات تقوم بها مجموعات من الباحثين حتى نفهم مناطق التغير القيمي والثقافي ومداه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مجتمعاتنا والعلمنة اللينة مجتمعاتنا والعلمنة اللينة



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon