بقلم - آمال موسى
يتحدث المختصون في علم الاجتماع دائماً عن صعوبة التغيير الثقافي، أي تغيير العقليات والسلوك. بل إنهم دائماً يلحّون على مسألة بطء عملية التغيير الثقافي ذاتها وأنها تحتاج إلى زمن كي تتحقق.هذه الأفكار الأساسية في حقل التغيير الاجتماعي ليست توصيفاً سلبياً أو إيجابياً لعلاقة المجتمع بالتغيير بقدر ما هي توصيف موضوعي يسري على كل المجتمعات تقريباً، ولا يكاد يكون الفرق إلا نسبياً ويتراوح مع تجربة كل مجتمع مع التغيير الاجتماعي، وأيضاً إلى أي مدى يتميز النسق الثقافي لكل مجتمع بالمرونة في التفاعل مع التغيير. وهنا نلاحظ أنه كلما كان المجتمع تقليدياً ومحافظاً كان أكثر صلابة وتعنتاً في مقاومة التغيير والممارسات والأفكار الجديدة. وليس صعباً ملاحظة صعوبات التغيير في مجتمعاتنا العربية مثلاً، التي تتصف بالتردد بين التقليد والتحديث، وهي معاينة تكشف عن عمق صعوباتها عندما نتوقف عند تحديد مظهر من مظاهر التغيير ومحاولة رصده.
ولعل الرقمنة من أركان التغيير الكبرى اليوم في كل العالم. والمجتمعات العربية من منطلق كونها جزءاً من هذا العالم، فهي معنية جداً بالرقمنة. والمشكلة التي تعترضنا ونحن نتناول هذا الموضوع بشكل خاص، هي ضرورة التمييز بين الإقبال العربي الهائل على استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وبين الرقمنة في الإدارة وفي تسيير الشؤون العامة. أي إن الملايين الذين يقضون ساعات طويلة على «تويتر» و«فيسبوك» فيهم ملايين أيضاً ممن يقاومون الرقمنة في مؤسسات الدولة التي تقدم خدمات لا غنى عنها للمواطنين. وهو ما يفيد بأننا أمام تناقض مركب تؤكده معطيات كمية تكشف عن أننا الأكثر استعمالاً لوسائل التواصل الاجتماعي، وفي نفس الوقت نحن الأقل توظيفاً للرقمنة في مؤسسات دولنا. كما من المهم الإشارة إلى أن هذه المؤسسات منذ سنوات بدأت في تحديث طرق التواصل وغالبية هياكل الدولة من سنوات، وهي تخصص الاعتمادات المالية لاقتناء الحواسيب وتأمين التغطية بالإنترنت. ولكن في مقابل ذلك هناك تقاعس من الموظفين في اعتماد الرقمنة عن تلبية خدمات المواطنين رغم دورات التكوين المتتالية.
طبعاً الأكثر شباباً هم الأكثر تفاعلاً مع رقمنة الإدارة، ولكنّ هذا المعطى لا يحلّ المُشكل لأن الإدارة عندما تقرر الرقمنة فإن الأمر يشترط توحيد التعامل. لذلك فإن هذا الشد إلى الوراء يستوجب في العالم العربي ككل حسماً واضحاً وصريحاً في مسألة الرقمنة التي باتت ضرورة غير قابلة للنقاش وأبعد ما تكون عن خيار يمكن قبوله أو رفضه أو حتى التكاسل في اعتماده.
وفي الحقيقة وككل تغيير لا بد من اتصال هادف يقدم المزايا ويحدد الجدوى والأهمية من اعتماد أي تغيير. ونظن أن إقناع مجتمعاتنا بمزايا الرقمنة وما يمكن أن تضيفه للمواطن في بلداننا من الأمور التي لم نقم بها كما يجب، والحال أن التشجيع على الرقمنة من الأهداف التي يمكن بلوغها، وذلك لأن الرقمنة تلبي حاجيات المواطن من ناحية التسريع في الخدمات وتيسير أموره وتضمن ما نصبو إليه من شفافية ومقاومة للفساد.
إن رقمنة الإدارة تقضي على سوء الخدمات وتحمي المواطن من الطوابير الطويلة وإهدار الوقت والطاقة من أجل الحصول على وثيقة إدارية لازمة. كما أن الرقمنة تغلق ثغرة من الثغرات التي يتم استغلالها للفساد والرشى.
أيضاً رقمنة الإدارة توفر شفافية المعطيات للمواطن والدولة معاً. ومن هنا نفهم لماذا الرقمنة مرفوضة من البعض ولماذا التردد في شأنها.
لا شك في أن تجسيد الرقمنة لا يتحقق فقط بتوفير الدول للحواسيب في كل هياكل الدولة واعتمادها أدوات عمل وتواصل بين الإدارات والمؤسسات ومع المواطن... بل تقتضي الرقمنة أن تكون الهواتف والحواسيب متاحة للمواطنين، وهو ما يشترط من ناحية أخرى إقرار تشريعات تكون في صالح استراتيجيات الرقمنة... من ذلك الإعفاء من الضرائب.
من ناحية أخرى فإن دور المجتمع المدني في الدفع نحو الرقمنة كبير وأساسي، خصوصاً في مساعدة الطلبة الشباب المعوزين على امتلاك الحواسيب. بمعنى آخر فإن الفقر يمثل عائقاً أمام الرقمنة، وهو ما لاحظناه بوضوح في أزمة «كوفيد - 19» حين وجدت وزارات التعليم العالي في غالبية الدولة العربية صعوبة في تأمين التعليم عن بُعد بسبب عدم امتلاك الكثير من الطلبة للأدوات اللازمة للتواصل بيداغوجياً عن بُعد.
من هذا المنطلق فإن السير في طريق الرقمنة يتطلب تكاتف الجهود في بلداننا، حيث لا يمكن أن نتواصل في الداخل ولا مع الخارج إلا بالرقمنة. بل إن الرقمنة يجب أن نتعامل معها بوصفها باقة حلول، ومن هذه الحلول فتح الآفاق العلمية والثقافية والاقتصادية. والكثير من المصاريف المثقلة لكاهل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة اليوم يمكن أن تُحل بالرقمنة، إذ يمكن العمل من المنزل مع ما يعنيه ذلك من نقص في المصاريف بالنسبة للمشغل.
إن الإقبال على التغيير والانخراط في الأدوات المعاصرة للتواصل في العالم اليوم يتحدد باستيعاب الفوائد... ونحن حاجتنا في العالم العربي للرقمنة كبيرة وأكيدة.