بقلم -آمال موسى
يحدث الانحراف في الفكر أولاً ثم ينتقل بطبيعة الحال إلى السلوك، باعتبار أن السلوك هو تعبير عما في العقل في بعديه الواعي وغير الواعي. ويختلف الانحراف عند النخب عن الانحراف عند غيرهم من عامة الناس. فالذي يرتكب جنحة أو جريمة ما موصوفة قانونياً هو يكون قد انحرف عن المعايير الاجتماعية والقيم المشتركة المتفق عليها كدستور اجتماعي متوارث من جيل إلى جيل. ولكن انحراف النخب فكرياً هو غير موصوف، ومن الصعب تحديد أركان الانحراف لأنه يتحقق في الفضاء الرمزي بالأساس.
أما التشوه، فهو عارض طبيعي، إذ قد يتشوه الجنين وهو لا يزال في بطن أمه فيتدخل الأطباء لتجنيبه عناء الحياة بإعاقة معلومة، وقد يولد مشوهاً فيكون التشوه أمراً واقعاً لا مهرب منه. أيضاً يمكن أن يكون الكائن سليماً ولكنه يتعرض إلى التشويه جسدياً. كما أن التشويه مادي ورمزي... ومثلما يوجد التشوه الخلقي يوجد أيضاً التشوه الفكري.
لا أعتقد أن هناك من سيحتج علينا إذا قلنا إن المجتمعات العربية تعرف لخبطة فكرية ثقافية معقدة جداً، وإن لمعظم النخب نصيب الأسد في حدوث هذه اللخبطة. فالنخب كما نعلم هي الصف الأمامي في المجتمع، وهي التي تقود الثقافة والفكر وتؤطر عملية التغيير الثقافي للمجتمع.
فكيف ستكون عملية التأطير هذه ناجحة والحال أن المؤطرين يعانون من انحراف فكري عميق والهضم الفكري للآيديولوجيات والأفكار والمفاهيم الكبرى، ويشكون من تشوه حصل أثناء عملية الهضم ذاتها مما يفيد بأن الهضم لم يحصل؟
سنحصر النخب في اثنتين بالأساس: النخب التحديثية والنخب الإسلاموية. وإذ نتوقف عند هاتين النخبتين فلأنهما تهيمنان في المجتمعات العربية والإسلامية منذ قرابة النصف قرن أو أكثر. كما أنهما سبب المشكلات التي اشتدت سلبياتها في السنوات الأخيرة.
فهل المشكل في الحداثة أم في المعتقد؟ أغلب الظن أن المشكل في النخب التي أساءت الهضم وبلورة المشروع فكان الإخفاق الذي شملت تداعياته مجالات الحياة الاجتماعية كافة، وليس الحقل السياسي فقط.
إذن تعاني هاتان النخبتان من مشكلة كيفية فهم الحداثة والدين وتمثلهما في مشروعهما للتغيير الاجتماعي. ومشكلة الفهم هذه أدت إلى إنتاج نخب منحرفة فكرياً، وهو انحراف أشد خطورة لأنه سيمس أجيالاً وفئات عريضة من المجتمع. فالمجني عليه في هذه الحالة مجتمع بأسره، وليس فرداً أو مجموعة صغيرة كما هو حال المنحرفين العاديين.
نوضح فكرتنا أكثر: جوهر أطروحتنا أن جميع النخب المتخاصمة تعاني من عسر في هضم الحداثة والإسلام، وهذا ما زاد في حدة الخصومة وعنفها. النخب الإسلاموية التي قرأت الإسلام بطريقتها الخاصة ووفق طموحاتها المعلنة وغير المعلنة وحملت لواء الإسلام واعتبرت نفسها مكلفة برسالة سماوية هي نخب أضرت الإسلام وقدمته بشكل خاطئ. روّجت لإسلام على مقاسها يلبي طموحاتها في الحكم سياسياً وفي تشييء المرأة وسجنها في أدوار دون غيرها وتكريس الهيمنة الذكورية.
لقد استند المشروع الإسلاموي إلى علاقة انتهازية مضرة للدين وقدسيته، سواء في كيفية تصور العلاقة مع السياسي أو العلاقة مع الماضي ومع المستندات الدينية أساساً، فكانت الدعوة ذات حياكة آيديولوجية لم تجلب غير الانغلاق.
إذن حصل تشوه في مستوى القراءة سواء للدين أو للحداثة، الأمر الذي أنتج نخباً تعاني من تشوه في الأداء والاستراتيجيات. ذلك أن عملية القراءة لم تتوفر فيها شروط المعرفة وفضول الفهم وشغف الإبحار في الأفكار والمفاهيم حتى الأعماق. فالنخب المشار إليها تعاطت مع المشروعين الفكريين الإسلامي والحداثي تعاطياً انتهازياً. ومتى ظهرت الانتهازية في الفكر ضاع الفكر. بمعنى آخر كل نخبة حاولت البحث عن أفكار ومفاهيم تمثل مدخلاً للخصومة والتحارب مع النخبة الأخرى بشكل توظيفي قسري وقهري للفكرة وللمفهوم في الوقت نفسه.
وبناءً على التعاطي الانتهازي مع الأفكار كان الزيف مهيمناً على الخطاب، والفشل مهيمناً بدوره على الحصاد.
من هذا المنطلق فنحن نحتاج إلى عمليات جراحية لمعالجة التشوهات، وهذا يتحقق بنهضة فكرية حقيقية بعيدة عن المعارك الآيديولوجية الضيقة. من المهم جداً أن تكون النخب شغوفة بالبحث عن الحقيقة والفكرة الأكثر قدرة على إظهار تطلعات الإنسان. فالمثقف يختلف عن السياسي؛ الثاني قوته في توظيفه لما يخدم المصلحة والظرف واللحظة، بينما المثقف مجبول على معالجة الأشياء من أصولها والتحليق في آفاق الأفضل والأسعد والأكثر قدرة على إشباع توقعات الإنسان.
لقد غرقت النخب بمختلف مشاربها وخلفياتها في مستنقع السياسة ووجهت بوصلتها نحو إرادة الحكم وممارسة السياسة اعتقاداً أن الوصول إلى الحكم هو فرض المشروع الفكري بقهر الدولة والاستفادة من استئثارها باستخدام العنف في حين أن هدف النخب الحاملة للمشاريع هو الاشتغال على العقليات وثقافة المجتمع. ولكن إدراك هذا الهدف على وضوحه وبساطته لم يكن في متناول نخبنا اليسارية والإسلامية، وذلك لأنها نخب ولدت مشوهة مهووسة بالوصول إلى السلطة، الأمر الذي عطل عملية الاستيعاب والفهم سواء للإسلام ومدى رحابته أو للحداثة مثلاً وما فيها من أفكار غير قابلة للموت والتجاوز.
لقد تأخر قطار التنمية والتقدم في الفضاء العربي الإسلامي لأن النخب مشوهة، ولا تقدم من دون نخب بصحة فكرية جيدة.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية