توقيت القاهرة المحلي 09:13:59 آخر تحديث
  مصر اليوم -

هربُ الفقراء إلى بطن الحوت

  مصر اليوم -

هربُ الفقراء إلى بطن الحوت

بقلم -آمال موسى

عرفت تونس الأحد الماضي فاجعة مؤلمة شهدت أحداثها جزيرة قرقنة الموجودة في محافظة صفاقس التي تعد العاصمة الاقتصادية لتونس. وتتمثل الفاجعة في كارثة غرق مركب قرب سواحل جزيرة قرقنة، كان ينقل عشرات المهاجرين غير الشرعيين (180 مهاجراً غير شرعي).
بمعنى آخر: عشرات غرقوا في البحر، ولم تكن تعلم أمهاتهم أنهن ولدنهم ليكونوا طعاماً للحوت.
وعلى امتداد الأسبوع المنقضي كانت هذه الكارثة موضوع بيانات الأحزاب السياسية والمنظمات وحديث الإعلام والتونسيين أينما كانوا.
طبعاً، ظاهرة «الحرقان»، أو الهجرة السرية غير النظامية الشرعية، ليست جديدة في تونس، لكن الجديد هو استمرارها واستمرار اليأس الذي يجعل الشاب يلقي بنفسه في قارب بسيط مكتظ بالعشرات مثله على أمل الوصول إلى أوروبا وتحويل اليأس إلى أمل.
لقد جاءت هذه الكارثة الإنسانية بكل المقاييس لتعمق أزمة الحكومة الراهنة في تونس. فأصابع الاتهام توجهت بالتحديد إلى الحكومة وسياساتها الفاشلة وعجزها عن إشباع توقعات الشباب وتوفير مواطن الشغل والحد من ظاهرة البطالة، في حين رأى البعض أن المسؤولية تعود للعائلات ولعصابات الهجرة السريّة ولضعف الأداء الأمني.
لقد كانت ظاهرة الحرقان ذكورية بالأساس، فأصبحت في السنوات الأخيرة ذكورية وأنثوية، وهو ما يمثل تغييراً لافتاً يستحق التوقف عنده. كما كانت هذه الظاهرة فردية بمعنى أن المهاجر يقبل على هذه المغامرة وحده أو صحبة أصدقائه، فإذا بها تحولت إلى ظاهرة تقبل عليها أحياناً عائلة بأكملها.
إذن ظاهرة الحرقان عرفت تحولات اجتماعية مهمة وذات دلالة سواء على مستوى علاقة ظاهرة الهجرة السرية بمتغير الجنس أو متغير الحالة المدنية. ولعل من التحولات الصادمة اصطحاب بعض الأزواج الحارقين لزوجاتهم الحوامل والزج بهن في قوارب الموت والهلاك غرقاً.
قبل أن نعلن صدمتنا، هناك أسئلة تستحق الطرح: هل من السهل على الزوج أن يخاطر بحياة زوجته الحامل وطفله المنتظر؟ هل من الطبيعي أن تقرر عائلة الهجرة السريّة؟ وكيف أصبحت تفكر بعض الشابات والنساء في الهجرة السرية وركوب البحر خلسة في قوارب مكتظة بالأرواح المهددة والجنسيات المختلفة؟
نظن أننا أمام قرارات صعبة ومخيفة لا يمكن أن يكون الدافع لها إلا ما هو أكثر صعوبة وأشد خوفاً ورعباً.
وكي لا نحوم كثيراً حول هذه الظاهرة فهي نتاج الإكراهات الاقتصادية وشعور الفرد بالاغتراب والإقصاء من الحق في الكرامة المادية. فليس سهلاً كما نعلم جميعاً المخاطرة بالنفس العزيزة وركوب أعماق البحر في وسيلة نقل بحريّة بائسة. لنقل بصراحة إن هذه المخاطرة هي عملية انتحار يتمنى القائم بها ألا تنجح.
إذن، اليأس والتهميش، وتحديداً انعدام مورد رزق هو ما يدفع هؤلاء إلى المخاطرة؛ لأنهم في نظر أنفسهم ليس لهم ما يخسرون، كما أنهم لا يشعرون أنهم أحياء. من هذا المنطلق، فإن الحكومات التي تعاقبت في مرحلة ما بعد الثورة هي المسؤولة عن تواصل هذه الظاهرة على هذا النحو؛ لأنها هي من جعلت منسوب الأمل يتضاءل بسبب الفشل في تحقيق التنمية والاستثمار؛ الأمر الذي جعل الدينار التونسي ينهار والأسعار تعرف ارتفاعاً هائلاً وبشكل مطرد.
المشكلة في تونس سياسية وتحولت إلى اقتصادية: لقد تناست النخب السياسية المتعاقبة منذ تاريخ الثورة إلى اليوم أن سبب الثورة اقتصادي بالأساس، وأن حصول الثورة كان في بداية مؤشرات التراجع الاقتصادي التي كانت من تداعيات عالمية وليست داخلية فقط.
أهملت معظم النخب السياسية في السنوات الأخيرة المشكلات الاقتصادية، ولم تجتهد من أجل إيجاد الحلول رغم تحذير خبراء المال والاقتصاد بأن سنوات 2016 و2017 و2018 ستكون صعبة على الجميع إذا لم تتحرك عجلة الاقتصاد والاستثمار.
هناك محاولات في الأشهر الأخيرة لمراقبة الجبايات ومقاومة الفساد ومحاصرة الاقتصاد الموازي، لكنها محاولات من أجل جمع المال للخزينة العمومية كي تستطيع الدولة تلبية الحد الأدنى من وظائفها، ولم تكن محاولات ضمن رؤية شاملة تُنعش الاقتصاد وتضغط على الاقتصاد الموازي في الوقت نفسه.
وبشكل أوضح، ليس هناك رؤية اقتصادية واضحة قائمة على أهداف قابلة للقياس؛ لذلك تفاقمت البطالة وازداد الفقر وتآكلت بشكل كبير الطبقة الوسطى التي كانت العمود الفقري للاقتصاد التونسي.
يبدو لي هكذا، يجب أن نقارب ظاهرة الهجرة السريّة: مقاربة السبب الرئيسي وليس الاقتصار على المقاربة الأمنية، التي لم تتصدَ للرغبة في الهجرة غير الشرعية وفي مواجهة الغرق بدل الجوع والتهميش والإقصاء غير العادل من الثروات والإمكانات القابلة للتحول إلى ثروات. كما أن عصابات وشبكات الهجرة السرية تكونت للقيام بوظيفة الاستثمار في اليأس وتحويله إلى سوق لا خسارة فيها إلا للأرواح.
إن تهميش السبب الاقتصادي في مقاربة ظاهرة الهجرة السرية من شأنه أن يؤجج الاحتقان والقهر؛ لأن مثل هذا التهميش ينطوي على مغالطة سياسية وسلوك غير مسؤول.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هربُ الفقراء إلى بطن الحوت هربُ الفقراء إلى بطن الحوت



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon