توقيت القاهرة المحلي 08:26:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الفساد لا يعالَج بالتنظير

  مصر اليوم -

الفساد لا يعالَج بالتنظير

بقلم -آمال موسى

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الفساد وكيفية محاربته بل وأيضاً محاربته بالفعل. طبعاً لا شك في أن الحديث عن الفساد ومقاومته من المظاهر الصحية، ودليل صحوة وطنية ومعالجة من الجذور لأسباب الأزمات التي تعيشها بلداننا.

ولكن في البداية أريد أن أوضح نقطة تبدو بديهية ومحبطة نسبياً لمن يعتقدون في المدينة الفاضلة: الفساد ظاهرة لا يمكن القضاء عليها، وكل ما تستطيعه المجتمعات والأنظمة الحاكمة هو فقط التخفيف منه، والبلد الأكثر قدرة على التخفيف من الفساد، هو البلد الأكثر نجاحاً. بمعنى آخر، فإن الرّهان يكمن في كيف يكون مجتمع معين أقل فساداً من غيره.
هذا أولاً.

النقطة الثانية المهمة حسب اعتقادنا تتمثل في أن الفساد ليس بنيوياً في تركيبة المجتمعات، بل هو نتاج ظروف وسياقات وأسباب يجتمع بعضها مع بعض فتجعل من الفساد حلاً. لذلك فإن الاكتفاء بتفسير ظاهرة الفساد ومظاهرها الكثيرة بانهيار القيم لا نعتقد في وجاهته من حيث الإقناع وتحقيق الفهم. ولا يمكن لهذا السبب أن يكون مهماً ومفسراً إلا إذا تم قرنه بسبب مادي واقعي.

من هذا المنطلق، فإن معالجة الفساد تنهض في اتجاهين اثنين أساسيين؛ تحريك عجلة الاقتصاد وإشباع التوقعات الاقتصادية والحاجات المادية للمجتمع، وثانياً بتقوية التشريع في مجال الفساد، مع العلم أن الاتجاه الثاني لا جدوى حقيقية منه إلا بالتنمية الاقتصادية وتحسين ظروف الحياة المادية.

صحيح أن المدلول الأول والمباشر لمعنى الفساد هو أخلاقي وقيمي من حيث المضمون الرمزي، ولكنّ هذا المدلول الرمزي بالذات يعالَج بالمادي الاقتصادي في جزء وافر ومهمّ منه.
وهنا نتساءل: في بلدان مثل تونس وغيرها إلى أي مدى يمكن الحديث عن حرب حقيقية ومجدية ضد الفساد وأربابه ورؤوسه وأذنابه وألسنته، والحال أن الاقتصاد متأزم وعجلة الاقتصاد متعثرة والعملة المالية الوطنية منهارة إلى أبعد الحدود؟

يبدو لي أن هذا الحديث لا يستقيم ولن يستقيم اللهمّ إلا إذا رغبنا في خطاب الوهم والكذب على النفس. يجب أن تجتهد النخب الحاكمة التي رشحت نفسها للحكم ورأت في نفسها الكفاءة لتحسين أحوال الناس في توفير بيئة اقتصادية تساعد على تحقيق الكرامة المادية وتوفر فرص العمل للعاطلين عن العمل. لا تستطيع أن تحارب الفساد وثلث السكان عاطل عن العمل، والقدرة الشرائية منهارة، والغلاء يفعل فعله في المواد الأساسية والكمالية، مع العلم أن دائرة الكماليات تغيرت واتسعت دائرة المواد والحاجيات الأساسيّة.
أما إهمال مجال الاستثمار والتعويل على مداخيل السياحة والمديونية لتوفير أجور الموظفين والرهان على الضرائب والأداءات... فكل هذا هو تشجيع مقنّع للفساد، بل إن تركيز الدولة على الأداءات والجباية هو في حد ذاته رسالة غير مطمئنة، ودليل فشل النخبة الحاكمة في ابتكار حلول استثمارية تحرك عجلة الاقتصاد وتفتح المجال للتشغيل وللتصدير.
إن الأفق الاقتصادي هو مقدّمة رئيسية لا بدّ منها قبل الخوض في ملف الفساد: من المهم أن تستعرض الدولة بدائلها وتقدم حلولاً ماديّة واقعية كي تجد الأذن الصاغية لها، وتنجح في إيصال خطابها حول الفساد. فالتأثير في الشعب اليوم يكون بالأرقام والمعطيات الكمية والنوعية الآنية وليست المستقبلية. لن تنجح أي نخبة حاكمة في الإقناع والتأثير إذا اكتفت بخطاب الوعود المستقبلية دون تمرير إجراءات وفتح آفاق آنية تقوّي من مصداقيتها ومن ثم مشروعيتها السياسية.
نعتقد أن تحريك عجلة الاقتصاد على نحو يبث الأمل في تحقيق الكرامة المادية يعد أنجح سلاح ضد الفساد، ووحده يخفِّف منه لأنه يقتلع أسبابه المادية من جذورها ويسحب علة الفساد من ممارسيه الذين وجدوا فيه حلاً لتعويض ما أخفقت في توفيره السياسات.
إذا وضعنا في الاعتبار أهمية المعالجة الاقتصادية لظاهرة الفساد التي أصبحت تحظى بتسامح اجتماعي في مجتمعاتنا بشكل غير مسبوق، فإننا نكون قد وضعنا الدواء فوق مكمن الداء، أو لنَقُلْ بلغة نسبية موضوعيّة عالجنا رأس الداء وبقيت الأطراف.

وبالتوازي مع المعالجة الاقتصادية تصبح المعالجة القانونية التشريعية عامل تحصين ومساعدة في نفس الوقت. وعندما تنجح النخبة الحاكمة في حل المشكلات الاقتصادية والتخفيف من معدلات الفقر والبطالة فإنه يحق لها الذهاب بعيداً في مجال التشريع ضد الفساد.

وكي نكون أكثر واقعية وبعيداً عن لغة التشكيك والتجريح فإنّه موضوعياً واستناداً إلى التحليل البنيوي للظواهر، وهو تحليل يبدو لنا ما زال يمتلك وجاهة التوظيف في مجتمعاتنا، لا يمكن أن ينجو القضاء كمؤسسات وفاعلين وأعوان من ظاهرة الفساد إذا عم الفساد المجتمع: وهنا تكون الكارثة الحقيقية، ذلك أن القضاء نسق فرعي من النسق الاجتماعي العام، وما يطرأ على بقية الأنساق التحتية يطرأ عليه أيضاً، الأمر الذي يعني أن محاربة الفساد وإنْ كانت تتم من خلال القضاء فإن هذه الحرب لا تستطيع أن تمارس الفساد مع القضاء وتصمت.
بيت القصيد: مقاومة الفساد مقاومة طويلة النَفَس ولا تقوم على التنظير المثالي، بل تستند إلى آليات عملية تُسكت الجوع وتحفظ الكرامة المادية. ولا حرب للفساد خارج الاقتصاد أولاً وثانياً والقضاء ثالثاً.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنيه

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الفساد لا يعالَج بالتنظير الفساد لا يعالَج بالتنظير



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon