بقلم: د. آمال موسى
انشغل التونسيون على امتداد الأسابيع القليلة الماضية بالانتخابات الرئاسيّة ومنحوها الكثير من المتابعة والاهتمام، وهيمنت على النصيب الوافر من النقاشات والتجاذبات. والحال أن منصب الرئاسة على أهميته الرمزية، فإن الدستور ما بعد الثورة في تونس لا يمنح الرئيس إلا صلاحيات محدودة لا تكاد تتجاوز التمثيل الدبلوماسي والقيادة العليا للجيش.
طبعاً هذا الاهتمام بمنصب الرئاسة مفهوم جداً بالنسبة إلى شعب كان في ظل نظام رئاسوي من بناء الدولة الوطنية الحديثة بتونس إلى حدود سقوط الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. وهو مفهوم ليس تونسياً فقط بل وعربياً بشكل عام، باعتبار أن الحاكم هو كل شيء في الدولة وله السلطة المطلقة، حيث تغير شكل الدولة وظلت في الغالب نفس التمثلات لسلطة الحاكم ولصورة المحكوم.
هذا الاهتمام المفرط والحال أن النظام السياسي التونسي هو نظام برلماني بالأساس ومعظم السلطات والصلاحيات موكولة للبرلمان، قد أثر سلباً على إيلاء الانتخابات التشريعية في تونس حق قدرها وأهميتها، فكان العزوف والتشتت في الأصوات وأيضاً ممارسة الناخبين للعقاب الانتخابي بالنسبة إلى الأحزاب التي حكمت في السنوات الأخيرة مثل حركة «نداء تونس» وحركة «النهضة».
ومن المهم التذكير هنا بأن حركة «نداء تونس» التي رئيسها الرئيس الراحل السيد الباجي قائد السبسي والتي ترأست الحكومة على امتداد السنوات الخمس الماضية قد تعرضت لعقاب قاسٍ جداً خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة ولم تفز إلا بمقعد واحد في التمثيل البرلماني. كما أن الناخبين مارسوا عقاباً أقل قسوة على حركة «النهضة» التي فازت بمقاعد يبلغ عددها نصف المقاعد التي فازت بها في انتخابات المجلس القومي التأسيسي في أكتوبر (تشرين الأول) 2011 والتي وفّرت لها آنذاك الأغلبية النسبية من مقاعد البرلمان.
لذلك فإن ما أفرزته الانتخابات التشريعية من تشكيلة حزبية في البرلمان يتميز بالتشتت والتنافر، الأمر الذي جعل تكوين حكومة بمثابة المأزق الذي يستدعي تجاوزه الرضوخ لحلين اثنين لا ثالث لهما؛ إما الدخول في مفاوضات حزبية - حزبية ستكون ضاغطة جداً على حركة «النهضة»، وإما في صورة الفشل في تشكيل الحكومة يكون من حق رئيس الدولة وفقاً للدستور الإعلان عن حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية أخرى.
ويمكن القول بشيء من الحذر إن الأحزاب التونسية المعنية بالتفاوض في مسألة تشكيل الحكومة خلال هذه الأسابيع، التي يجب ألا تتجاوز الشهرين من تاريخ الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية، لن تنزلق في سيناريو إعادة الانتخابات التشريعية رغم أن حركة «النهضة» أبدت استعداداً لذلك، خصوصاً أنها لم تكن راضية عن نسبة التصويت التي تحصلت عليها. ولكن بشكل عام لا شيء يضمن للأحزاب ذات الأصوات المؤثرة في البرلمان حالياً أن تدخل في مغامرة انتخابية جديدة قد تُفقدها النسبة التي تحصلت عليها. وإذا ما تم تغليب هذا المنطق وهذه القراءة فإن الحل يكون في التفاوض، الذي لن يكون سهلاً بالمرة وفاتورته في جميع الأحوال باهظة بالنسبة إلى الجميع.
ينص الدستور التونسي على أن الحزب صاحب النسبة الكبرى من المقاعد البرلمانية هو الذي يشكّل الحكومة. المشكلة أن حركة «النهضة» لم تتحصل على الأصوات التي تجعلها قادرة وحدها على تشكيل الحكومة، والفرق بينها وبين الحزب الفائز بالمرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية، وهو حزب «قلب تونس»، بسيط جداً ولا يتجاوز بعض مقاعد. بمعنى آخر، فإن حركة «النهضة» هي التي تشرف بحكم أنها الحزب الأكثر مقاعد على عملية تشكيل الحكومة ولكن هي في حاجة إلى التوافق مع أحزاب أخرى، بحكم أنها لا تملك العدد اللازم من المقاعد الذي يمكّنها من ضمان المصادقة على تشكيلتها الحكومية وعلى مسار عملها الحكومي وعلى المشاريع القانونية، التي ستحتاج إليها لتنفيذ برامجها ومشروعها الحكومي.
لا تفوتنا الإشارة إلى أن التجربة الديمقراطية في تونس وشفافية صناديق الاقتراع وممارسة الشعب للعقاب الانتخابي، زرعت الخوف في الأحزاب التونسية، وما حصل لـ«نداء تونس» مثّل صدمة حقيقية رغم توقعها، ناهيك بأن حركة «النهضة» بعد تجربة الحكم التي عاشتها في السنوات الأولى لما بعد الثورة، أدركت حجم المشكلات وصعوبة إدارتها وكيف أن تقدمها للحكم يقوّي المعارضة ضدها، لذلك اختارت نهج التوافق وتقديم غيرها في واجهة الحكم كي لا تتحمل مسؤولية الفشل كما حصل لحركة «نداء تونس».
في هذا السياق يسعى بعض الأحزاب إلى تضييق الخناق على حركة «النهضة» وإجبارها على الحكم بمفردها تقديراً منها أن هذه الخطة ستقضي على حركة «النهضة»، وأنها ستلقى المصير الذي وجدت فيه حركة «نداء تونس» نفسها اليوم، أي الدفع بحركة «النهضة» لتشكيل الحكومة بمفردها واصطيادها سياسياً بمعارضة قوانينها برلمانياً وشعبياً، لأن حجم المشكلات والتحديات يجعل من أي حزب يحكم في مناخ غير داعم وغير متوافق يفشل آلياً.
المشكلة التي تجعل من الأزمة المشار إليها قائمة وصعب تجاوزها، هي أن الأحزاب القادرة على حل هذه الأزمة مجتمعة قد أعلنت في أثناء الحملة الانتخابية أنها لن يتعاون بعضها مع بعض؛ إذ تعهدت حركة «نداء تونس» لناخبيها بأنها لن تحكم وتتوافق مع حركة «قلب تونس»، وهي الثانية في البرلمان، و«الحزب الدستوري» الذي تترأسه السيدة عبير موسى يرفض قطعياً التوافق مع حركة «النهضة».
الواقع الذي أفرزته الانتخابات التشريعية يفرض على الجميع التوافق، ولكن زعامات هذه الأحزاب أكثرت من الكلام غير السياسي وغير الواقعي مما أسقطها في مأزق المصداقية.