بقلم: د. آمال موسى
يبدو لي أنّه إذا وضعنا أبعاد الحبّ كافة في الاعتبار، ونحن نحاول الإجابة عن هذا السؤال، فإننا سنقول إنّه فعلاً بطولة منذ بداية الحياة الإنسانية، وأغلب الظن أنه في هذا الزمن الرّاهن الذي نحيا فيه قد أضحى بطولة مضاعفة من منطلق كوننا نعرف مرحلة عصيبة من تهميش القيم.
طبعا لا شك في أن اعتبار الحبّ بطولة يجرنا للحديث آلياً عن أبطال، وهنا يجف ريقنا ونتلعثم في تركيب جملة مفيدة، لأن الأبطال ندرة على مر التاريخ وأكثر ندرة اليوم، خصوصاً عندما يكون موضوع البطولة يتصل بالقيمة الأم لكل القيم الإيجابية: أي الحبّ. ذلك أن قيمة الحب هي أصل كل قيم الخير، وهي تتطلب كفاءة عاليّة وصحة قيمية ونفسية وثقافية جيدة جداً. فالمرضى ثقافياً لا يستطيعون الحب، وإذا فعلوا كان حبهم مريضاً، وإذا كان الحب مصاباً بالمرض فقد انتفت عنه كل ملامح هويته كحبّ.
من حسن الحظ أن الذاكرة الإنسانية عرفت أبطالاً في الحب والسلام والخير، ومنهم المناضل الراحل مانديلا الذي أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عقد أن يكون يوم 18 من هذا الشهر الحالي اليوم الدولي لنيلسون مانديلا.
عندما نذكر اسم هذا البطل في السلام والحب والحرية والمساواة وحقوق الإنسان ينتابنا شيء من النخوة الإنسانية، ويتجدد في داخلنا الأمل بأن العالم لا يمكن أن يفقد خصوبة الخير مهما بلغت الثقافة السائلة والمادية المستوحشة سقفاً عالياً.
إننا في حضرة حكيم من حكماء الإنسانيّة، إذ بين البطولة والحكمة لا يوجد جدار عازل، ولا حتى ستار شفاف. ولكل بطولة حكمة تحركها وتنميها، وتقوي أنفاسها، وتحرس بطلها، ليكون رمزاً وفكرة وحكمة أبديّة نذكرها فنتذكر من أي نسل نحن حتى لا نضيع أكثر مما يجب عن إنسانيتنا.
فكما هو معلوم يعد مانديلا من كبار المناضلين في حقوق الإنسان، حيث قضى نحو 27 عاماً في السجون من أجل مناهضة التمييز العنصري، فكان تجربة في الدفاع المستميت عن المساواة بين الأعراق والجنسين والحرية والسلام. ولما كان مناضلاً ومحامياً فذاً لحقوق الإنسان، فإنه نجح في أن يكون أول رئيس منتخب ديمقراطياً لدولة جنوب أفريقيا.
اليوم مع الأسف أصبحنا نفتقد إلى هذه الطينة من الرموز التي في خدمة الإنسانية، وفي حراسة ضمير العالم. وما يقلل من شدة هذا الأسف أن تراث مانديلا ما زال موجوداً شاهداً عليه، ويخلده، حيث البقاء للفكرة، والرجل ترك لنا تراثاً من الأفكار التي لو وجدت من يعتنقها، ومن يسخّر حياته لنشرها، ربما لكان حال العالم اليوم أفضل، خصوصاً أن مانديلا وأمثاله ناضلوا من أجل إنسان أفضل، ومن أجل أن يكون منسوب الحب والسلام أقوى وأكثر تدفقاً وغزارةً.
وعندما نُقلب تراث نيلسون مانديلا نجده يقول لنا: «ما أسهل التخريب والتدمير، بيد أن الأبطال هم أولئك الذين يصنعون السلام»، ويكفي أن نتأمل واقع العلاقات الدولية اليوم لندرك حجم التشويه الذي لحق بفكرة البطولة التي غدت عند أقوياء العالم مرادفاً للهيمنة والقهر المقنع، ومن أكثر قدرة في صنع ما تمت تسميته تضليلاً الفوضى الخلاقة. بل إنّ فكرة صنع السلام ذاتها بكل ما تعنيه من نقاء وعمق قيمي وإنساني أصبحت لا محل لها، ولا وزن في مخططات معظم ساسة القرن الحادي والعشرين، وكأن دروس التاريخ مالت لصالح ثقافة الهيمنة والتمييز والتفاضلية الحضارية متناسية دروس الفاشية والنازية والنزعة الاستعماريّة التي فشلت، وتركت جراح العالم تئن، وتتناسل على نحو غير مباشر ومباشر.
أيضاً نعثر في التراث ذاته عن مقولات أخرى مهمة وقوية المعنى، ومنها قوله: «لا يوجد إنسان ولد يكره إنساناً آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه. النّاس تعلمت الكراهية، وإذا كان بالإمكان تعلم الكراهية إذن بإمكاننا تعليمهم الحبّ». ففي هذه المقولة ينتقل مانديلا من فكرة تعلم الكراهية إلى فكرة تعلم الحب بسلاسة ومنطق مذهلين، ويضعنا بأقل ما يمكن من كلمات، ومن خلال فكرة واحدة أمام لبّ المشكل، وهو أن الكراهية بجميع معانيها وتمظهراتها اليوم، وفي مستوياتها كافة، إنّما هي نتاج تنشئة يتلقاها الإنسان، وتصنع منه فرداً يمارس الكراهية في وجدانه وعقله، ويترجمها السلوك والممارسات. أي أن المشكل يكمن في مضامين التنشئة الثقافية القيمية، التي تقدمها الثقافات للأجيال، ما يعني أن الكراهية ثقافة تكتسب وتنتقل عن طريق التنشئة الاجتماعية الثقافية، وتتوارث أيضاً.
وهنا قد يشعل العقل السوي الضوء الأحمر، ويقول ما ضر لو استبدلت بمضامين الكراهية مضامين الحب والتسامح والتواصل الخلاق الإيجابي، الذي تزهر معه حقول الاخضرار بثمارها الناضجة النافعة.
يحتاج العالم بأسره إلى ورشة عمل جادة يعمل فيها أبطال الحب والسلام ليل نهار على المؤسسات المسؤولة عن التنشئة الثقافية، وكيفية نزع مضامين الكراهية عنها، وزرع مضامين الحب التي سبق استئصالها من طرف منحرفين كبار جداً عرفهم التاريخ، وأرسوا تعليماً خاصاً بالكراهية.
إنّ ضمير العالم ينبض فقط بنضالات أبطال الحب والسلام الخالدين منهم والقلة الذين يستمدون قوتهم ممن سبقهم، ومن فكرة الحب وأمل السلام.
فالمشكل ليس دائماً في وجود الطغاة وأعداء السلام، بل في خطر انقراض أبطال الضمير الإنساني، ودونهم ينتفي صراع الحب والكراهية والحرب والسلام.