بقلم: د. آمال موسى
بين تونس الواقع اليوم وما يجب أن تكون عليه تونس هناك فرق كبير. فلماذا وهي بلد الثورة الذي شهد، بشهادة العالم، انتخابات رئاسية وتشريعية لمرتين على التوالي شفافة ونزيهة، وتم القبول بنتائج صندوق الاقتراع، يعيش منذ نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي 2011 في توترات ومخاض لم يهدأ إلى حد الآن؟
بلغة أخرى: لماذا حال تونس متعثر رغم الديمقراطية وحرية التعبير وقوة دور المجتمع المدني؟
إن هذه الأسئلة هي دليل حيرة حقيقية، إذ إن ما يقع في تونس اليوم هو عطب عميق ونوع من التعطيل الإرادي لتنهض تونس وتعالج مشاكلها الحيوية والجديرة بالطاقة المهدورة في التوترات الحاقدة الآيديولوجية بالأساس.
إذا قمنا بمحاولة تلخيص لأهم ملامح الواقع السياسي التونسي الراهن سنجد أن السمة الأساسية المهيمنة هي التوترات وغياب الثقة والعراك الذي أصبح الخبز اليومي في البرلمان من جهة والعلاقات الفاترة بين المؤسسات الثلاث الحاكمة، ونقصد بها البرلمان والحكومة والرئاسة من جهة ثانية. فالعلاقات بين هذه المؤسسات تفتقر إلى التواصل الإيجابي وكل مؤسسة تعتبر نفسها حاكمة أولى في تونس. وهذا التوتر الصامت في معظمه بين هذه الأطراف الثلاثة ظهر بقوة في النخبة الحاكمة حالياً أكثر من النخب الحاكمة السابقة، أي أن التونسيين لم يعرفوا في مرحلة ما بعد الثورة هذه الدرجة من التوترات بين البرلمان والرئاسة والحكومة. ومرّد ذلك طبعاً يعود إلى نتائج الانتخابات الأخيرة التي أفرزت تركيبة مشتتة متنافرة التوجهات والأفكار والآيديولوجيات، ووجدت نفسها مجبرة على التعايش السياسي القسري، ولقد رأينا حجم الوقت الذي تم إهداره لتشكيل الحكومة وللمصادقة عليها.
وأمام هذا التعايش السياسي القسري وأيضاً عدم وضوح التراتبية السلطوية والتنافس الحاد بين المؤسسات الثلاث، علاوة على ما تكرر من تناقضات في المواقف بينها، فقد ظهر خطاب يدعو إلى ضرورة مراجعة النظام السياسي ونظام الانتخابات، أي مراجعة المنظومة التي أدت إلى هيمنة حركة النهضة على الحياة السياسية. وهو الخطاب الذي بدأ يعتمده الكثير من الرافضين للطبقة السياسية الحاكمة والمنتقدين لها للمطالبة بتغيير القوانين الانتخابية وشكل النظام البرلماني وإجراء انتخابات مبكرة. وبناء على تراكم الأخطاء في الأشهر الأخيرة، وخاصة بعد إلغاء الحجر الصحي الشامل وعودة الحياة الطبيعية فإن ضغط المعارضين بدأ يرتفع، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: تونس إلى أين تسير وكيف يمكن أن نفسر الدعوة إلى انتخابات مبكرة والحال أن النخبة الحاكمة هي نتاج انتخابات؟ أيضاً هل من السهولة أن تتنازل الطبقة الحاكمة عن السلطة وهي التي وصلت لها بصندوق الاقتراع؟
إذا كانت الإجابة بلا، فهذا يعني أن تونس سائرة في طريق العنف الأهلي، وهو كارثة في حد ذاته وإجهاض للتجربة الديمقراطية على علاتها.
من جهة أخرى، يبدو لنا أن المأزق الكبير حقيقة يظهر في البرلمان لأنه في جزء كبير وأساسي تحول إلى فضاء صراع آيديولوجي بين الأحزاب الممثلة للإسلام السياسي وعلى رأسها حركة «النهضة» و«الحزب الدستوري الحر» الذي يعتبر خزان الدساترة والتجمعيين. فالبرلمان يعيش على وقع حرب مفتوحة بين حركتي «النهضة» و«الحزب الدستوري الحر»، وهي حرب كثيراً ما بلغت توتراً وتراشقاً وتبادلاً للتهم وتوجيه الإساءات، مما أحبط التونسيين وجعلهم في مواقع التواصل الاجتماعي يصفون ما يجري في البرلمان بأوصاف نقدية لاذعة.
وهنا نصل إلى نقطة التوتر الرئيسية في الحقل السياسي التونسي، وهي الحرب المفتوحة الشرسة بين الحزبين المشار إليهما. فـ«الحزب الدستوري الحر» يصف حركة «النهضة» بالإخوان ويطالب بتصنيفهم مجموعة إرهابية كي يتم تطبيق قانون مكافحة الإرهاب عليهم. وحسب عمليات سبر الآراء فإن رئيسة الحزب الدستوري الحر بصدد كسب أنصار لفائدتها وأصبحت القوة رقم واحد في تحدي حركة «النهضة»، ولقد استثمرت التقارب بين حركة «النهضة» وتركيا وتحديداً الموقف من الأزمة الليبية. ومن جهتها، ترى حركة «النهضة» في «الحزب الدستوري الحر» أيتام النظام السابق الذين ثار ضدهم الشعب التونسي في 14 يناير (كانون الثاني) 2011.
ولو قمنا بقراءة مستعجلة لمضمون هذا التجاذب الثنائي والاستقطاب الحاد بينهما سنجد أنه آيديولوجي بامتياز، ويقوم على استثمار الرصيد السلبي للخصم للتراشق، وليس التركيز على البرامج والبدائل وما يعانيه التونسي من مشاكل اقتصادية ومن مشاكل مالية قادمة لوح بها رئيس الحكومة مؤخراً، حين أعلم الشعب التونسي أنه قد يضطر للخفض في الرواتب.
إن خطة استثمار أخطاء الخصم السياسي الحاكم واعتمادها عنوان مشروعية سياسية للمعارضة والوجود السياسي تم اعتمادها في تاريخ تونس السياسي مرات عدّة، وأظهر التاريخ أن جدواها محدود زمنياً، وأن معارض الأمس أصبح حاكم اليوم ودائماً يستعمل المعارض السياسي التونسي نفس التكتيك وينتقل بدوره من معارض إلى الحكم... وهكذا دواليك.
والمشكلة المقلقة أن التجاذب بين الحزبين يقوم على تبادل الاتهامات الخطيرة والرفض المتبادل حد الإقصاء، وقد استثمر أتباع الحزبين ومناصروهما وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الحقد الآيديولوجي، بل وأيضاً للتهديدات.
نلاحظ انفلاتاً وغياباً للرصانة السياسية ولحسن تقدير الأمور، لذلك فإن شبح العنف الدموي غير مستبعد، إذا تواصل التراشق العنيف، ولا ننسى أن مرحلة ما بعد الثورة وفي المرحلة الأولى منها سال دم شكري بلعيد ومحمد براهمي، ولم تخلُ بداية العام الحالي من أخبار أمنية المصدر بوجود تهديدات جدية لبعض المعارضين ومنهم رئيسة الحزب الدستوري الحر.
فأين تسير تونس في هذه اللحظة السياسية الخطيرة في منطقة المغرب العربي، حيث الأوراق مختلطة والمصالح متشابكة، وحيث الدم يمكن أن يكون درع دفاع عن هذه المصالح ضد من يهددها حتى بالكلام والتجييش؟