توقيت القاهرة المحلي 05:59:31 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الاعتذار للأقوياء فقط

  مصر اليوم -

الاعتذار للأقوياء فقط

بقلم: د. آمال موسى

أحياناً لا تكمن المشكلة في مضمون طلب ما بقدر ما هي في توقيت هذا الطلب ودقة اللحظة، وإلى أي مدى هي مناسبة. والمعروف أن من يمارس السياسة باحتراف واقتدار وذكاء، لا يفوته البعد الزمني فيما يطالب به وما يقبله وما يرفضه.
هذه الديباجة القصيرة على صلة بموضوع اللائحة البرلمانية التي تقدم بها حزب ائتلاف الكرامة في البرلمان التونسي والتي تقضي بمطالبة فرنسا «بالاعتذار عن الجرائم التي قامت بها في مرحلة الاستعمار وما بعده»، والمقصود بالجرائم حسب ما ورد في اللائحة «جرائم القتل ونهب الثروات الطبيعية ومساندة الأنظمة الديكتاتورية بعد الاستقلال».
هذه اللائحة التي أثارت الجدل في الحياة السياسية وعرفت مواقف انقسامية لم تحصد عدد الأصوات اللازمة للمصادقة، وبالتالي تم رفض التصويت عليها في مجلس النواب التونسي، ومن ثم فإن حزب ائتلاف الكرامة وضع البرلمان وتونس والتونسيين في موقف محرج ومؤسف بكل المعاني، بدءاً من لحظة التفكير في هذه اللائحة، وصولاً إلى عدم التصويت لفائدتها وسقوطها.
فهل أن تونس في هذه اللحظة بحاجة إلى مثل هذا التشويش الضار؟ ولصالح من القفز على المشاكل الداخلية الرئيسية والانشغال بمواضيع وقضايا صالحة في كل زمان؟
أولاً لا بد من الملاحظة أن هناك نية على ما يبدو للعب بالوقت على حساب القضايا ذات الأولوية. ويمكن القول إنّ الشعبوية عند البعض هي طريقة ممارسة الحكم والمعارضة والسياسة بشكل عام من دون وعي بما يعنيه ذلك من إهدار لوقت التونسيين ولمشاكلهم المتراكمة التي من المفروض أنها تنتظر أفكاراً خلاقة وحلولاً ذات جدوى.
ثانياً وكي نوضح الأمر بشكل يمنع الوقوع في التباس التأويل، فإن مطالبة شعب ما عانى من الاستعمار بالاعتذار ممن قام باستعماره ليست سابقة تونسية، وليست بالأمر المرفوض لذاته، بل إنّ الرفض تحديداً يشمل توقيت تقديم مثل هذا الطلب ثم خصائص الواقع التونسي المكبل بالديون والاقتصاد المعطل، إضافة إلى أن فتح هذا الملف في لحظة تونسية هشة اقتصادياً وسياسياً ضد طرف يعد الشريك الاقتصادي الأول لتونس نعتقد أنها فكرة لا تخلو من تهور وشعبوية، وتفتقر إلى الحكمة السياسية. فكي تطالب بالاعتذار ويكون صوتك مسموعاً دولياً وقادراً على التفاوض وفرض الشروط، لا بد من أن يكون وزنك الاقتصادي واستقلاليتك المادية عناصر قوة تقويك وتقودك فعلاً إلى اقتلاع الاعتذار.
لذلك كان الميل إلى توصيف هذه الفكرة بالشعبويّة، ودليلنا حديث الحزب صاحب اللائحة عن النبل الحضاري وتوابعه من دون وعي بأن فرنسا ليست من السذاجة السياسية للتفاعل إيجابياً مع مثل هذا الطلب الذي يبدو في ظاهره حقوقياً ورمزياً، والحال أنه بما يشبه اعتراف الجاني بجرمه ومن ثم استحقاقات الاعتراف المتمثلة في التعويضات المالية والقضايا التي سترفع ضدها بناء على قرينة الاعتراف أقوى القرائن في الأحكام القضائية.
المشكلة الأخرى أن حزب ائتلاف الكرامة لم يقتصر في لائحته على فرنسا؛ فالمطالبة بالاعتذار عن الجرائم خلال الفترة الاستعمارية وأيضاً ما بعدها وما قامت به فرنسا من مساندة للنظام البورقيبي وبعد نظام زين العابدين بن علي يعني الدخول في حرب من نوع آخر وتصفية حسابات آيديولوجية مع النخب الدستورية والتجمعية والعلمانية الحداثية بشكل عام.
والغريب في كل هذا هو أننا عندما ندقق النظر في عدد الذين صوتوا سنجد أنه قرابة النّصف وعدد الذين صوتوا بنعم لهذه اللائحة هو أقل من العدد الذي يستلزمه قانون التصويت في البرلمان، فكانت النتيجة رفض اللائحة، وهو ما يعني لو أردنا كتابة خبر قصير جداً يكتفي بالمعلومة بدون الحيثيات والتفاصيل، أن البرلمان التونسي الذي هو يمثل الشعب التونسي يرفض أن يطلب من فرنسا الاعتذار عن جرائمها الاستعمارية في حقه، وبشكل أوضح البرلمان التونسي لا يعتبر الاستعمار جريمة ولا يصح التطاول على فرنسا بمثل هذا الادعاء.
لذلك يمكن القول بكثير من الحسرة إنه إذا كان تقديم اللائحة من الأصل خطأً سياسياً من حيث التوقيت واللحظة التونسية والفرنسية والعالمية، حيث العالم يئن بأشكال مختلفة من وجع جائحة «كورونا»، فإن رفض البرلمان التصويت على هذا الخطأ أيضاً يعد فضيحة عالمية.
وطبعاً عدم التصويت كان متوقعاً، فمضمون اللائحة أصلاً لا يدخل في اختصاص البرلمان بقدر ما هو من مشمولات وصلاحيات مؤسسة الرئاسة، الأمر الذي يزيد في قوة فرضية رغبة البعض في إحداث زوبعة في فنجان من دون التفكير في العواقب الرّمزية التي أحياناً لا تقدر بثمن.
سيذكر التاريخ بدون كثير من التفاصيل أن البرلمان التونسي وفي مرحلة يعيش فيها الديمقراطية رفض التصويت عن «مطالبة فرنسا بالاعتذار عن جرائمها أثناء الاستعمار وبعده». كما سيذكر أيضاً أنه في زمن جائحة «كورونا»، وبدل أن يناقش البرلمان القوانين التي تعالج مشاكل التونسيين التي زادها الحجْر الصحي شدة وتعقيداً، قضى البرلمان أياماً في جدل عقيم لا علاقة له بالواقع وخارج تاريخ اللحظة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاعتذار للأقوياء فقط الاعتذار للأقوياء فقط



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

الملكة رانيا بعباءة بستايل شرقي تراثي تناسب أجواء رمضان

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 19:53 2019 الجمعة ,01 آذار/ مارس

خبير مفرقعات يفجر مفاجأة حول حادث محطة مصر

GMT 19:41 2019 الإثنين ,28 كانون الثاني / يناير

كواليس الليلة الأخيرة لـ"عروس العياط" ضحيّة برودة الطقس

GMT 10:23 2018 السبت ,29 أيلول / سبتمبر

"THAT House" بيت زجاجي معاصر بديكور داخلي مذهل

GMT 02:28 2018 الثلاثاء ,03 تموز / يوليو

نشوى مصطفى تؤكّد أنها تعشق التسوق في المولات

GMT 19:53 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

تحذيرات من ثوران بركان"فوجي" في طوكيو

GMT 22:40 2018 الأربعاء ,25 إبريل / نيسان

شركة " PayPal" تفعّل الدفع الإلكتروني لأجهزة سامسونج

GMT 14:22 2018 الخميس ,05 إبريل / نيسان

سموحة مهتم بالتعاقد مع بانسيه لاعب المصري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon