بقلم: د. آمال موسى
تُصنف الصحافة بكونها السلطة الرابعة في المجتمع وهو تصنيف قد أصبح حسب اعتقادنا قديما ويحتاج إلى وقفة خاصة، الهدف منها مراجعة هذا التصنيف وتنسيبه من فضاء إلى آخر وأيضا إعادة النظر في ترتيبه في تركيب السلط في المجتمع نفسه.
لقد عرف الإعلام المكتوب وبشكل مضاعف وخاص السمعي والبصري تحولات هائلة جعلت سلطته أقوى وفعله في المجتمع أخطر ورغم ذلك ظل تصنيفه على حاله وهي مسألة مهمة جداً، لأن استمرار اعتبار الصحافة السلطة الرابعة، يكشف عن عدم الوعي بالتحولات الخاصة في تركيب السلط ومن ثمة التغيرات التي طرأت على العلاقات بين السلط.
ما يعنينا من طرح هذا الموضوع ليس بعده العالمي وواقع الصحافة في العالم، بل إن ما يهمنا تحديداً هو الإعلام في الفضاء العربي الإسلامي الذي لا يخفى على أحد أنه ظل، إذا استثنينا بعض التجارب الجادة، نقطة ضعف في البلدان العربية.
كما نضيف أن هذا الضعف ينكشف أكثر ونتأكد منه في البلدان التي عرفت ما سُمي الثورات، حيث نلاحظ أن التشريعات الجديدة في مجال السياسة والإعلام قد وفرت مناخاً حراً، ولكنه مهدد بضعف الإعلام.
طبعاً نحن هنا لا نتحدث عن الإعلام من منطق مثالي وعلى دراية تامة بأن المؤسسات الإعلامية، هي قبل كل شيء مؤسسات اقتصادية تحتاج للاستمرارية إلى تسديد نفقات والربح. غير أنها أيضاً تمثل مؤسسات لتشكيل الرأي العام ممَّا يعني أنها مؤسسات منتجة للرموز والأفكار والمعاني وموزعة لها.
إنّ السلط المرتبة قبل الصحافة في قائمة السلط الاجتماعية هي السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وكما تكون هذه السلط يكون المجتمع. ولا يمكن تطوير أي مجتمع وتحقيق تنمية سياسية واجتماعية وحقوقية من دون الاستناد إلى سلطة هذه الحقول الأساسية وقوة الجوانب المؤسساتية فيها. من ذلك مثلاً أنه إذا كان القضاء في بلد ما غير مستقل، فإن عملية التنمية والبناء تصبح مزيفة ووهمية.
لنأتِ الآن إلى مشكلة الإعلام ولماذا بدا لنا أنّه يجب أن يكون السلطة الأولى في بلداننا بشكل خاص؟
إنّ المجتمعات التي صنَّفت الصحافة سلطةً رابعة هي مجتمعات نجحت في تركيز مؤسساتها التنفيذية والبرلمانية والقضائية، وقطعت أشواطاً طويلة وأصبح فيها الفصل بين السلط الثلاث أمراً واقعاً يحتاج فقط إلى يقظة المجتمع المدني وحتى إذا حصلت بعض التجاوزات فهي فردية وعابرة وتتعلق بأشخاص وليست دليلا على عطب في المؤسسات وفي بناء السلط نفسها. من هذا المنطلق يمكن في المجتمعات، التي حسمت مسألة الفصل بين السلط أن تصنف بحذر الصحافة سلطة رابعة.
مشكلتنا نحن في الفضاء العربي الإسلامي مختلفة جدا ذلك أن معركة الفصل ما زالت في البدايات وما زال المنجز هشا وقابلا للإطاحة به سريعا. لذلك فإن الحل بالنسبة إلى بلداننا في وجود إعلام جاد ومحترف وفاعل إيجابيا وإيجابيته تتمثل في الانخراط الواعي بجوهر معركة الفصل بين السلط والتحلي باليقظة للمحافظة على ما أنجزته الثورات وما حققته مشاريع الإصلاح في بلدان عدّة. أما إذا ظل الإعلام ضعيفا وتابعا للأكثر هيمنة ونفوذا فإن ذلك سيصيب السلط الثلاث بالعجز ويمنعها من تأمين منجز ومن إعادة الهيكلة ومن التأقلم مع طموح الديمقراطية والفصل بين السلط والعدالة والمواطنة.
إنّ وظيفة الإعلام في البلدان المتخلفة والأخرى السائرة في طريق النمو أصعب من البلدان المتقدمة لأنه بكل بساطة في البلدان المتقدمة هو حارس مكاسب العقلانية والحرية وفي بلداننا هو الضامن لمعركة الفصل بين السلط وهو المحافظ على المنجز والواعد من خلال الجدية واليقظة والحياد والمهنية بتراكمه وعدم الإطاحة به.
لن تتم الإطاحة بأي ديمقراطية ناشئة ولا حرية بصدد النمو إلا إذا تواطأ الإعلام وسمح بذلك وكان اليد التي تضرب بها جهود التغيير والتطوير.
المشكلة أيضا أن كثيرا من المؤسسات الإعلامية انخرطت في إعلام البوز وهمشت شرط التكوين الجيد للصحافي، فكانت النتيجة صحافة دون صحافيين قادرين على التحليل والفهم وطرح الأسئلة التي يجب طرحها والإشكاليات الجديرة بالتناول والمعالجة. فهل يمكن في ظل هذا الواقع بناء تجربة ديمقراطية ذات أسس حقيقية متينة بصحافة صفراء التفكير والمعرفة؟
بيت القصيد: نتحدث كثيرا عن التخلف السياسي وفساد القضاء وضعف البرلمانات ونهمل أن الصحافة هي المطلوب منها أن تكون السلطة الأولى في مجتمعاتنا اليوم لأنها القاطرة التي ستدفع السلط الثلاث إلى التطور وإلى احترام الفصل بينها. لذلك فنحن فعلا بحاجة إلى ثورة في مجال الصحافة وإلى إعلاميين محترفين فاعلين في عملية التغيير الاجتماعي. فكل السلط تعتمد على الصحافة وكما تكون هذه الصحافة والعاملون فيها يكون التطور أو التراجع. وحركات الإصلاح والثورات التي تهمل الإعلام فإن هذا الأخير يقضي عليها بضعفه وسقوطه السهل في تلبية الأجندات.