يقال إن القراءة سعادة، وإن الكتاب مفتاح العالم، وإن الكتاب خير جليس، بل إن إرنست همنغواي ذهب أبعد مؤكداً أنه ليس هناك من صديق أوفى من الكتاب.
أعتقد أنّه يجب ألا نمل من القول والتكرار دائماً وأبداً إن الكتاب هو سر تقدم الأمم، وانفتاح العقول والآفاق الذهنية... هذا القول تحديداً لا صلة له بما نسميه اللغة الخشبية.
إنّها حقيقة لا يدركها إلا من خبر سحر القراءة، وما تنطوي عليه من سفر وأسفار وحياة وحيوات.
وفي بلداننا، كما تفضح ذلك الأرقام والإحصائيات التي لا فائدة من إعادة استحضارها، فهي معروفة للقاصي والداني والعارف والجاهل، فإن حال النشر والقراءة يعاني من بؤس ظاهر وضعف ملحوظ. فالمطالعة ليست ممارسة ثقافيّة أساسيّة في السلوك الثقافي للإنسان العربي، ناهيك عن أن حركة النشر، رغم بعض التحسن الذي نلحظه في معارض الكتاب العربية، لا تزال ضعيفة الوتيرة، وحضور الكتاب داخل بلداننا وخارجها ضعيف.
ويبدو لنا أنّه في هذا الإطار من التقويم الإشكالي لواقع النشر العربي، فإننا لا نستطيع مقاربة الأزمة دون توفر معطيات كميّة، تكون ثمرة دراسات ميدانية تشرف عليها منظمة الألكسو مثلاً، التي بُعثت من أجل تحسين الواقع الثقافي والعلمي والتربوي العربي.
فالمعالجة الدقيقة العقلانية والجديّة لواقع النشر تشترط إعداد مسح دقيق للحصول على كل المعطيات الكميّة الخاصة بمجال الكتاب والقراءة في بلداننا. طبعاً، هذه المعطيات متوفرة، ولكنها غير مجتمعة في دراسة كمية واحدة، كما أنّها غير مُحينة ومتضاربة، وكل طرف من الأطراف الفاعلة في قطاع النشر يهتم بالمعطيات التي تعنيه في المقام الأول، وتخدم مصالحه.
لا شك في أنّ مجال النشر يعاني من مشكلات بنيويّة، أهمها غياب التقاليد، وافتقار غالبية دور النشر الموجودة في القطاع اليوم إلى رؤى وأهداف واضحة.
غير أن هناك نقطة تبدو لنا مهمة جداً ومهملة في نقاشنا لمشكلات النشر في العالم العربي. وهذه المشكلة تتمثل في تقصير الأجهزة الثقافية العربية في الأخذ بيد الناشر مادياً، ودعمه من أجل المشاركة في المعارض العربية والدولية، وفق إجراءات واضحة تمكنه مع الوقت من الاستفادة من دعم الدولة المادي لتحقيق نوع من الاستقلالية فيما بعد.
أريد أن أوضح في هذا السياق الذي نتناول فيه دور الناشر كفاعل أساسي في قطاع النشر بعض النقاط: أولاً، لقد قام قطاع النشر على تهميش دور الناشر الخاص في بلدان عربية كثيرة، مع اختلاف نسبي في مصر وفي لبنان. ولعل تجربة لبنان تؤكد أن الخوصصة في قطاع النشر عامل نجاح، حيث إن دور «دار الآداب» البيروتية مثلاً في بروز كبار الشعر العربي وسارديه عصيّ على الإنكار. فالخوصصة مفتاح خلق حركية واقتصاد ناجح للكتاب.
لذلك، يبدو لنا، وبالنظر إلى التجربة اللبنانية مثلاً (مع العلم أن التجربة اللبنانية تعرف تراجعاً في السنوات الأخيرة)، أن منظمة الألكسو ووزارات الثقافة العربية مدعوة إلى التفكير، وتقديم تصور جديد ومدروس حول دور الناشر، وتأهيله ليقوم بدور أكبر، وليتحمل مسؤولية تطوير القطاع وانفتاحه.
إن البلدان العربيّة اليوم لا ينقصها الشعراء والساردين والمفكرين، وهو ما أظهرته كثير من الجوائز العربية التي بُعِثت في السنوات الأخيرة، ولكن لن تصل ولن تكبر ولن تكثر هذه الأقلام وهذه العقول إلا إذا انبثقت حركة نشر قوية في رؤاها، وفي إيقاع نشاطها، وفي طموحاتها جغرافياً وثقافياً.
أيضاً، نعتقد أن تطوير قطاع النشر يندرج ضمن استراتيجية الحرب على الإرهاب من جهة، وتغيير العقول وفق قيم حداثية إنسانية من جهة ثانية.
وفي الحقيقة، رغم أهمية ما ذهبنا إليه من ضرورة إيلاء الكتاب المكانة اللائقة في الأحوال كافة، التي يعرفها المجتمع العربي بشكل عام، فإن هذه الأهمية تصبح مضاعفة في حالة الحرب الطويلة على الإرهاب، مع ما يعنيه تزايد ظواهر العنف والإرهاب عند شبابنا من هشاشة فكريّة وثقافيّة ودينيّة، تجعل منهم لقمة سائغة لدى مافيا الإرهاب.
لا شك في أن المقاربة الاقتصاديّة لظاهرة الإرهاب ذات شأن وثقل وتفسيرات مقنعة إلى حدّ كبير. ولكن ليس الفقر المادي وحدّه المحرض على الوقوع ضحية هذه الظاهرة، بل إن للفقر الثقافي المعرفي دوره الكبير والأساسي والمحدّد أيضاً.
لذلك، فإننا نعتبر أن تطوير قطاع النّشر يندرج ضمن استراتيجية الحرب على الإرهاب، وفي صلبها، حيث لا معركة ثقافيّة دون كتاب بالنسبة إلى ظاهرة هي بالأساس ثقافيّة، وتمثل صراع مرجعيات ومشاريع ثقافية للتغيير الاجتماعي.
بمعنى آخر، فإن دور وزارات الثقافة، ومنظمة الألكسو والإيسيسكو، إنّما يتمثل في جزء وافر منه في معالجة مشكلات قطاع نشر الكتاب، ومحاولة تذليل الصعوبات والعراقيل التشريعيّة كافة، ناهيك عن تشجيع بعث مجلات ثقافية تُضفي على المشهد النّقدي حراكاً مفقوداً.
فالحرب على الإرهاب، كما يجب أن نراها، ليست في تسويق خطاب رسمي، بل المطلوب هو بلورة فعل ثقافي معزز بالأهداف الواضحة، ويعوّل على التأسيس الثقافي بالأساس.
ففي هذا الإطار، يصبح الكتاب قضية عربيّة حارقة، تشمل الثقافة والاقتصاد. فلا ارتقاء دون قراءة؛ وهذه حقيقة مثلما الموت حقيقة في هذه الحياة. إنّ الانتقال من وضع يمثل فيه الكتاب أسوأ جليس إلى حال يكون فيه خير جليس يحتاج إلى جهد جاد وإرادة ووعي بفكرة أنه لن نعالج ما نحن فيه من تقهقر إلا بالاعتقاد في أهمية الكتاب.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع