بقلم: د. آمال موسى
الظاهر أن هناك مؤشرات إيجابية حتَّمت التفكير في التخفيف من شكل الحجْر الصحي، من الشامل إلى ما يسمى الحجْر الموجه. في تونس مثلاً هناك مؤشرات مشجعة، أهمها وأكثرها دلالة أن عدد الوفيات لم يتجاوز الخمسين شخصاً.
ولكن بشكل عام، ونظراً إلى بداية إجراءات التخفيف في مصر والجزائر وغيرهما في الطريق، فإن الخروج من طور الحجْر الشامل قد بات أمراً ملحاً وضرورياً لجميع الدول، حتى لو كانت المؤشرات لا تشجع بالمرة. فكما هو واضح، فإن تكلفة جائحة «كورونا» مرتفعة، من حيث المتطلبات التي تلزم القطاع الصحي، وأيضاً من ناحية تداعيات تعطل عجلة الاقتصاد، وما قامت به الدول من محاولات رمزية للتعويض مقابل التزام الحظر الشامل في الحرب على «كورونا».
بلغة تقريبية أكثر توضيحاً، فإنه منذ قرابة الشهرين والعالم في حالة بطالة وتراجع كبير للإنتاج، في حين أن الحاجيات ظلت هي نفسها، ما أجبر الدول على محاولة سد الفراغ والاضطلاع بدورها في لحظة عالمية مفاجئة ومخيفة، ولا ينفع فيها غير حجْر مليارات من الناس داخل بيوتهم.
لذلك، فإن الانتقال إلى طور رفع الحجْر تدريجياً يجب ألا يُفهم منه السيطرة على الفيروس اللعين المرعب؛ بل هي رسالة واضحة من الدولة في أي بلد بصدد الاستعداد للمرور إلى مرحلة الحجْر الموجه، بأن الدولة ما عادت تحتمل توقف الاقتصاد، بدليل أنه في تونس مثلاً لم يعد التلاميذ والطلبة إلى الدراسة، وتم إعلان انتهاء السنة الدراسية بالنسبة لمرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي، ولن تستأنف بداية من يونيو (حزيران) الجامعات وبشكل مدروس جداً. في مقابل هذه الإجراءات نلاحظ أن الحجْر الموجه هو اقتصادي بالأساس، وأن المعنيين به العمال والموظفون وأصحاب المحلات والمغازات، مع ما يعنيه ذلك من مخاطر يُمكن أن تنسف ما اعتُبر مؤشرات إيجابية في محاربة الفيروس.
ولا يمكن العودة إلى الحجْر الشامل إلا بكارثة حقيقية، تجد فيها الدولة أن الحجْر أفضل وأقل تكلفة من تخفيفه أو إلغائه.
كل هذا مفهوم جداً وواضح أيضاً.
غير أن الجدير بالانتباه - حسب رأينا - أن الانطلاق في رفع الحجْر يعني نزول المواطنين إلى الميدان لمحاربة تداعيات الجائحة، ويعني بشكل أدق أن الدولة فوَّضت قيادة الحرب للمواطنين ولكن على مراحل، وهنا يكمن الخوف من السيناريوهات التي يمكن أن تبدد الجهود المبذولة خلال الشهرين الماضيين. ففي هذه المرحلة الانتقالية من الحجْر الشامل إلى الحجْر الموجه الكل خائف، الدولة والمواطنون. ففي تونس التي لم يبلغ فيها عدد الموتى بسبب فيروس «كورونا» الخمسين حالة وفاة، تحدث أعضاء من اللجنة القارة لمجابهة فيروس «كورونا المستجد» عن أن تسجيل ألف حالة وفاة، وإصابة أكثر من 25 ألفاً آخرين يعد أمراً وارداً في حال تجاهل المواطنين للإجراءات الوقائية لمواجهة الوباء.
إذن الكرة بدأت تنتقل من ملعب الدولة إلى ملعب المواطن. وكما نعلم فإن المواطن أنواع، والوعي ليس واحداً، ناهيك عن أن ملايين المواطنين الذين يعانون من الفقر في البلدان العربية مثلاً لا يرون جائحة أكثر خطورة من جائحة الفقر، ويُخيِّرون محاربة الفقر كي لا يقتلهم الجوع على ملازمة الحجْر والموت جوعاً. وغالبية الفقراء في بلداننا ليس لهم دخل قار، وهم يقتلعون رغيفهم من الحياة بشكل يومي لا شهري مثل الموظفين. فلا سلطة للدولة على الفقراء والذين لا يتقاضون منها مرتباً شهرياً، والغالبة عليهم القدرية في العيش، وهم من تخشاهم الدولة، إذ لا تستطيع أن تقدم لهم من إعانات سوى الفتات غير الدائم، وفي الوقت نفسه لا تثق بالتزامهم الإجراءات الضرورية لمواجهة الفيروس. وهنا المأزق وحزمة المخاوف.
بمعنى آخر: إنه لا مفر حالياً، وبعد شهرين من تحمل مؤسسات دولنا لأعباء الحرب، من الخروج التدريجي من البيت إلى الميدان. وهو سلاح ذو حدين؛ امتحان لمناعة الصحة اجتماعياً، وتحديداً هو الانتقال من مرحلة وضع الفرضيات إلى امتحان الفرضيات وتأكيدها أو نفيها.
وأغلب الظن أن هذه المخاوف ستظل لصيقة بنا، ولن نتجاوزها إلا عندما ينجح العلماء في إيجاد لقاح فعال ضد هذا الفيروس، والظاهر أن هذه اللحظة ليست قريبة، الأمر الذي يجعل الحرب ضد «كورونا» مفتوحة بين الكر والفر، والتخطيط فيها لا يمكن أن يكون أبعد من المدى القريب جداً.
ولكن في خضم كل هذه المخاوف والغموض والحرب المفتوحة، والخالية من إمكانية للتسوية، فإن الحجْر من المهم أن يتدرج على مراحل، وألا يُتجاوز بشكل نهائي إلا عند إيجاد اللقاح وتعميمه. فإذا كان لا بد من تحريك عجلة الاقتصاد، فالأهم أن نتذكر أن هذا الاقتصاد هو من أجل المواطن ومعاشه. وهو ما يعني أن هناك قطاعات لا حل للدولة إلا فرض الحجْر الصحي عليها، وعدم رفعه ولو جزئياً، وعلى رأسها القطاع السياحي، رغم أهميته الحيوية لعديد من دول العالم.
فالرفع التدريجي للحجْر علامة صحية تحتاج إلى إدارة حكيمة.