بقلم : سوسن الأبطح
المقاطعة موقف أيضاً... أن لا يتحرك سوى ربع الناخبين اللبنانيين يوم الأحد الماضي للذهاب إلى صناديق الاقتراع، فيما تضطر الأحزاب للاتصال والتمني والترجي لإقناع ربع آخر أو أقل، ثم لا تصل نسبة المقترعين، بعد جهود مضنية، إلى 50 في المائة بعد تسع سنوات من الانتظار، فهذا أمر جلل في الدول الديمقراطية التي تحترم مواطنيها.
ثمة معنى آخر لمجلس نيابي بشرعية شعبية ضئيلة. أما وأن تستنتج أحزاب وازنة ومخضرمة، أن الناخبين يحتجّون بعزوفهم الجماعي هذا على القانون الجديد للانتخاب، بدل أن يلوموا أنفسهم، ويقدموا اعتذاراتهم على أدائهم السياسي العاجز، وسلوكهم المحبط، وخطابهم المقزز الذي وصل سقوفاً معيبة، فتلك قراءة كارثية. أن تتلطى لوائح المجتمع المدني خلف حجج واهية، منها أنها لم تعط فرصة الظهور التلفزيوني الكافي، فيما إعلاناتها البراقة ملأت الطرقات والكومبيوترات، أو أن أحزاب السلطة تستشرس ضدها، فهذا ليس كافياً لتبرير أن لا تصب أصوات الناقمين على الأداء السياسي التقليدي لصالحهم، كطرف بديل مقنع. استخلاص العبر المفيدة والموضوعية، أجدى من إخراج الذرائع من الأكمام كالسحرة والمشعوذين الذين يظنون أن بمقدورهم خديعة الجمهور إلى ما لا نهاية.
الناس كبرت ونضجت، لم تعد تستظرف أن يصرّح والد عن ابنه النائب الفائز، أو يخرج ابن ليتكلم عوضاً عن أبيه المرشح. غير مقبول أن يخاطب مسؤول مئات آلاف العاطلين عن العمل، بأن هذا ليس وقت المحاسبة «وبعد الانتخاب منشوف شو منعمل». أو أن يقف سعادة النائب الذي يطلب تجديد ولايته على مقربة من جبل نفايات عرمري يبث سمومه، ولا يأتي على ذكر حلّ له، وهو يخطب ودّ جمهوره.
ثمانمائة ألف ناخب جديد على لوائح الشطب تتراوح أعمارهم بين 21 و30 سنة. هؤلاء ثلث الناخبين، كان يرتجى أن يقبلوا بحماسة، وأن يحدثوا تغييراً ملموساً بسبب خياراتهم، فتأهيلهم التعليمي ليس بقليل، ولبعض منهم ميول مدنية يسعى لأجلها. مع ذلك لم تصبّ أصوات الجيل الجديد لصالح اللوائح المدنية بالقدر الكافي، وإلا لكان الاختراق ليتجاوز الفوز بمقعد واحد يتيم. المرشحون باسم «كلنا وطني» لم يكونوا على مستوى المأمول من حركة احتجاجية تطرح نفسها كبديل للسلطة. منهم من تحوم حوله شبهات حقيقية، وبينهم من له تجارب في منطقته غير مشجعة. لعلها مجرد شائعات، لكن ما حدث في دول مجاورة من أدوار مبهمة للمجتمع المدني، يستدعي الحذر. الناشطون الجدد الراغبون في إقناع الناس بشفافيتهم عليهم أن يكونوا أنقى من البلور ويفصلهم عن الانتهازية أشواط عما يفصل غيرهم.
أخطأ المرشحون التقليديون حين ظنوا أن قليلاً من الاستعراضات الشبابية تكفي لإغراء المناصرين الغاضبين. لم يكن الرئيس سعد الحريري وحده من تقرب من الشبان بمئات من صور السيلفي، التي التقطها معهم وتقاسمها وإياهم على تطبيق خاص. فهذا الرئيس نجيب ميقاتي المعروف برصانته يرتدي قميصاً عليه خريطة لبنان. والنائب السابق فريد هيكل الخازن يطل بمقابلة تلفزيونية لابساً سروالاً قصيراً وهو يمارس الرياضة ويهرول في الشارع، والوزير السابق نقولا الصحناوي يطل وهو يدهن بفرشاته جداراً في أحد أحياء الأشرفية.
طريف ومحبب أن يكون سياسيونا شعبيين وقريبين من الناس ومعهم في الشارع والدكان. وثمة حملات أتت أكلها، لكن المشكلات باتت جذرية وعميقة. البلد على شفا إفلاس، ولم يعد بعض التنكيت يجدي أو خفة الدم تحيي الموتى الذين يقضون بالسرطان بأعداد مريبة.
ظهرت نتائج الانتخابات النيابية، واحتفل الفائزون جميعهم، ولم يحزن أحد. الكتل التي تضاعفت كما تلك التي تقلصت، اعتبرت أنها أنصفت ووصلت إلى مبتغاها. وربما أن للناخب ما يحتفي به أيضا. فغالبية القوى الصغيرة التي كانت تشكو عدم تمثيلها دخلت الندوة البرلمانية، وصار بمقدورها أن تعمل، وأن تتحالف مع بعضها وتشكل حركة فاعلة، وما عاد من مبرر للتذمر.
إنما على الجميع أن يراجعوا حساباتهم بتأنٍ. أن يدركوا أن اللبنانيين صوتوا هذه المرة لكسرة الخبز بعد أن تفاقم العوز، واقترعوا لتعليم أولادهم، وقد فاقت أقساط المدارس قدراتهم. ذهبوا إلى الصناديق يحركهم سخطهم من حملات انتخابية فارغة من أي مضمون، ومن تحالفات حزبية خبيثة لم تحترم عقولهم. اختاروا اسم مرشحهم لا حباً به بالضرورة، وإنما ثأراً من الزعيم الذي دقوا بابه، لحظة حاجة، ليوظف ابنهم ولم يفِ بالوعد. لم تتوقف تسجيلات الشبان الصغار المغتربين على وسائل التواصل التي تناشد اللبنانيين بأن يختاروا بضمير، وأن يقترعوا لمن يعيدهم إلى أرض الوطن، وأن يحسنوا الاختيار كي يتيحوا لهم العيش في دفء أهلهم، وفي بيوتهم بدل جفاء الغربة وصقيعها. شاب في عمر الورد يخبر أنه اشتاق لضحكة أمه التي لم يرها منذ سنوات. فتاة غاضبة تطل بوجهها الجميل وتسأل مواطنيها ألا يتركوها تقضي بقية عمرها محكومة بوحدة لا تريدها ولا تحتملها. أن تقرر عائلات لبنانية بأكملها المشاركة في الانتخابات بالتفرج على التلفزيون، فهذا معناه أن المشكلة ليست سياسية بين المرشحين والناخبين، ولا تتعلق بخيارات دولية كبرى، أو حسابات إقليمية وكونية.
الناخب يريد مرشحاً يصدّقه ويمنحه ثقته، وحين لا يجده بين عشرات المرشحين، رغم تعدد اللوائح واختلاف المشارب المعروضة عليه، فإنها حقاً لمعضلة أخلاقية عميقة بين المواطنين وسلطة سياسية بأكملها. لقد جعل اللبنانيون يوم الانتخابات موعداً وطنياً لإعلان «الخيبة الكبرى»، وهذا ما يجب أن يفهم ويدرك.
نقلا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع