توقيت القاهرة المحلي 13:49:10 آخر تحديث
  مصر اليوم -

منافع «فيروسة»

  مصر اليوم -

منافع «فيروسة»

بقلم: سوسن الأبطح

شركة «ريكار» الفرنسية صارت تنتج المعقمات بدل المشروبات الكحولية، و«مرسيدس» الشهيرة تحولت إلى صنع أجهزة التنفس عوضاً عن السيارات، تماماً كما مثيلتها الأميركية «جنرال موتورز». وبالطبع لن نستغرب أن نرى دور أزياء مرموقة مثل «إيف سان لوران» و«غوتشي» و«أرماني» تنسى الأناقة والرهافة والمناخات الهفهافة، وتكرّس جهودها لإنتاج كميات من الكمامات والمنظفات والملابس الواقية من الفيروسات، مثلما تفعل «ديكاتلون» للمعدات الرياضية التي قررت تزويد المستشفيات بالأقنعة البلاستيكية. وهناك مَن يسخر من الفكرة، ويقول إن هذه الشركات التجارية التي اعتادت الربح الوفير، لا تفعل ذلك لوجه الإنسانية، بقدر حاجتها للحفاظ على حياة زبائنها، لتبيعهم منتجاتها بعد انقضاء الغمة.
وبصرف النظر عن النيات، ففي أزمنة الحروب الكبرى حدث أن بدّلت مصانع بمهماتها المدنية أخرى عسكرية. وهذه المرة النزال الكبير هو في سبيل إنقاذ الأرواح المتألمة، لا قتل الآخر، وهذه أنبل المعارك وأشرفها. و«كورونا» ليس شراً مطلقاً، رغم الخراب الذي ينشره؛ فقد ألزم المدرسين بالتعليم عن بُعد، في كل قارة.
وكان ثمة أساتذة لا يعرفون كيف يكتبون رسالة إلكترونياً، فصاروا، بظرف قياسي، يديرون صفوفاً على التطبيقات التعليمية التي لم يسمعوا من قبل بوجودها. ورغم الصراخ والشكوى، فإن تلامذتنا يُضطرون اليوم للاعتماد على أنفسهم، وقراءة عدد أكبر من الكتب والمراجع، والبحث الشخصي عن المعلومات، لأن التعليم المفتوح، لا يمكن أن يكون تلقينياً. ومهما حاول المقاومون للتغيير بعد انقضاء المحنة، استرجاع عاداتهم البائسة في الحفظ والتغييب، سيلحظون أن الزمن تجاوزهم، وعليهم أن يسيروا في الركب. لا يمكن تخيل المقاومة التي لاقاها هذا الصنف من التعليم في العالم العربي، لكن الضرورة ألزمت الجميع، وطول مدة الحجر وضعت الأستاذ بين الرضوخ للتدريب في المنزل والسير في الخطة، أو إعلان الاستسلام للبطالة.
وهذا من شيق ما جادت به علينا «الفيروسة» القاتلة. ومع أن البعض يتوقع أن يخرج الناس من جحورهم بعد «كورونا» ليعودوا إلى سابق عهدهم، فإن مخابرات دول كبرى تدرس جدياً التبدلات الجذرية المنتظرة، وتتحضر لها. وإذا وضعت جانباً الكلام الكبير عن الاستراتيجيات العالمية، فإن التدابير الداخلية الصغيرة وحدها ستصنع الفرق. ومن الآن، بدأ الحرص على تأمين الاكتفاء الذاتي الحياتي، ليس في فرنسا إيمانويل ماكرون فقط، بل في بلد صغير، مثل لبنان، عرف قيمة أن يصنع جهازاً تنفسياً وطنياً، ويبتكر شبانه تطبيقاً محلياً شبيهاً بما رأيناه في الصين وكوريا الجنوبية، لتتبُّع المحجورين صحياً، وكذلك تشجيع الصناعات بكل أنواعها، والزراعات المحلية، بعد أن تبين أن إغلاق الحدود والمطار محنة بحد ذاتها. ولم يعد نادراً أن ترى عواصم عالمية تشكو فقدان مواد غذائية، أو منتوجات الحصول عليها مسألة حياة أو موت.
ويسأل المفكر جاك أتالي إن كنا فهمنا الدرس. والأرجح أن طول مدة الوباء، وكلفته البشرية والمالية، هما ما سيحددان الإجابة. لكن تقريراً استخباراتياً أميركياً حذر منذ ثلاث سنوات من الزيادة الديموغرافية المنتظرة في العالم، ومن حروب خفية على المصادر الرئيسية، كالطعام الذي سيزيد استهلاكه بمعدل الثلث، والماء بنسبة أربعين في المائة، فيما استهلاك الطاقة قد يتجاوز نسبة الخمسين في المائة. أضف إلى هذه المحاذير التنبؤات المستجدة بأوبئة أخرى، لن يطول الوقت قبل أن تطل برأسها. وبالتالي كما تبين أن حرب الكمامات قد تكون أخطر من الصراع على النفط، وأن جهاز التنفس أهم بالطبع من تبديل السيارة أو الأثاث المنزلي، فإن الدعوة تتزايد لمصانع «اللوكس» كي تبقي على جانب من إنتاجها في خدمة حياة الناس ومستلزماتهم الضرورية، كما التخلي عن الأرباح الباهظة التي تؤمّنها صناعات عابرة للقارات، والتركيز على إنشاء شركات محلية تحفظ لكل دولة أمنها المعيشي.
وما سيصنع الفرق هو الفشل الذريع الذي أظهره القطاع الخاص في إدارة الخدمات عند الأزمات، ليس في أميركا وحدها التي اضطر رئيسها دونالد ترمب، لإصدار قرار حربي كي ترضخ شركات كبرى لتصنيع معدات طبية، وإنما في لبنان كذلك، حيث تبين أن «مستشفى رفيق الحريري» الحكومي الذي أهمل بجلافة، هو أول مَن تصدى لاستقبال المرضى، يوم عوملوا كمنبوذين لا يريد أن يقترب منهم أحد. وكان أطباء وممرضو الجامعة اللبنانية الوطنية، أول مَن عالج هؤلاء، مع أن تبرعات الأثرياء السخية ذهبت دائماً إلى الجامعات الخاصة ببريقها وبهرجتها، لكن لحظة المحنة لم تكن بجهوزية. ولّت أسطورة خصخصة السجون والكهرباء والمستشفيات التي سال من أجلها حبر كثير، وأتحفنا بمديح نجاحاتها المستثمرون، وسقطت بالضربة القاضية حين كشفت «فيروسة» أن أوهاماً كثيرة بُنيت على باطل، وأمجاداً حُكي عنها لم تكن سوى سراب.
إنها العودة إلى الدولة، التي صار بمقدورها أن تحدد لك عدد أكياس الأرز حين تشتريها، وكمية لفائف أوراق التواليت، وتدفع لها غرامة صاغراً إن خرجت من عتبة منزلك دون إذن مسبق. وقد تجد نفسك قريباً، في أكثر الدول ديمقراطية، مرصود الحركة، بهدف حمايتك من خطر قد يداهمك. وإذا تأكد أن الأبراج في نيويورك واكتظاظها، وما تنقله مصاعدها من أعداد الساكنين، ساهمت في انتشار المرض، فإن النظرة إلى هذا المعمار الحديث قد تتبدل، وأسعاره تتراجع. وكل شيء ممكن، لكن الأكيد أن ثمة عودة إلى نصائح جدتي التي كانت تمنعنا من دخول البيت بأحذيتنا، أو الجلوس على كنباتها المطهرة بالصابون بملابس فقدت نقاءها، بعد تجوُّلنا بها في الخارج، وتصرّ على إطعامنا من حشائش الأرض. ومن يرى أن «كورونا» لن يكون سوى أذى كثير، فربما لأن المشهد لم يكتمل. لكن الحسنات، بمرور الوقت، يذهبن السيئات، وكما للبكتيريا فوائد عديدة، كذلك للفيروسات منافع عميمة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

منافع «فيروسة» منافع «فيروسة»



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024
  مصر اليوم - المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 08:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات
  مصر اليوم - ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:36 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 11:46 2024 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

مبابي أفضل لاعب فرنسي في موسم 2023-2024 ويعادل كريم بنزيما

GMT 08:09 2024 الثلاثاء ,04 حزيران / يونيو

مميزات كثيرة لسيراميك الأرضيات في المنزل المعاصر

GMT 05:00 2024 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

بوجاتي تشيرون الخارقة في مواجهة مع مكوك فضاء

GMT 05:50 2024 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

تسلا تنشر صور للشاحنة سايبرتراك باختبار الشتاء

GMT 13:06 2021 الأحد ,03 تشرين الأول / أكتوبر

منة شلبي عضو لجنة تحكيم الأفلام الطويلة بمهرجان الجونة

GMT 20:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

رسميًا إيهاب جلال مديرًا فنيا لنادي بيراميدز
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon