بقلم - سوسن الأبطح
مع أن الصين غزت العالم ببضائعها، فإن اللعبة لا تزال في أولها. هذا تفهمه أوروبا، وأدركته أميركا، وتحاول احتواءه دون جدوى. القمة المصغرة التي جمعت الرئيس الفرنسي ماكرون، والمستشارة الألمانية ميركل، ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، بالرئيس الصيني شي جينبينغ، في قصر الإليزيه، ذات دلالات كبيرة. 13 دولة أوروبية باتت منخرطة في مشروع «طريق الحرير» ذي المسمى الثقافي الناعم الملمس والمضمون الاستثماري، الذي يبدو للبعض متوحشاً.
تتعامل الصين مع الدول الأوروبية بالمفرق، تقضم بالتدريج وتكسب، والقمة حاولت أن تقنع شي بأن التعاطي بالجملة قد يكون له أربح. يبدو الرجل متجاوباً، يعقد الصفقات المغرية وكأنه يرمي طعماً؛ لكنه يغنم في المقابل ما يصعب حصره، إذ تفتح أمامه الأسواق وتستحوذ بلاده على شركات. وقبل أن يحط شي رحاله في باريس، كانت إيطاليا قد انضمت كأول دولة من الدول الصناعية الكبرى السبع إلى نادي «طريق الحرير»، ووقّعت تحت ضغط الركود 29 عقداً مع التنين، تصل إلى سبعة مليارات يورو. وباستثمارات صغيرة في موانئ إيطالية، مثل جنوا وتريستي على المتوسط، أمنت الصين وصولها بحراً إلى السوق الأوروبية.
في باريس كان شي أكثر سخاء، فالعقود وصلت إلى عشرات المليارات. الصفقة الأضخم هي شراؤه 300 طائرة «إيرباص» من الشركة الفرنسية - الألمانية بثلاثين مليار دولار.
يريد الاتحاد من الصين أن تبادله سياسة تشريع الأسواق، ويرد الصينيون بصفقات سخية، قد تحدث دواراً في الرأس؛ لكنها في العمق محدودة المفاعيل، فيما تحصل في المقابل على تسهيلات طويلة الأجل، ومزيد من المساحات المحررة أمام سلعها.
وفتحت الصين مؤخراً أبوابها للبرتقال الإيطالي، وبعض المشروعات السياحية والإعلامية، وسمحت بالدواجن الفرنسية، وسهلت دخول شركات؛ لكنها تستثمر في أوروبا في النفط والكهرباء والإلكترونيات والطاقة النووية، مع الحرص على بقاء الأموال في الدائرة الصينية، وشتان بين هذا وذاك.
وبين أميركا التي تفرض على أوروبا الشروط والضرائب، والصين التي تغزو بالبضائع، وبريطانيا التي تنسحب، تعيش القارة العجوز على وقع تهديدات من كل جانب.
ماكرون قال إن أوروبا «تحترم الصين؛ لكنها تتوقع في المقابل، الاحترام نفسه لوحدة الاتحاد الأوروبي، والقيم التي يحملها». لكن شي - على الطريقة الصينية - طلب «إزاحة الشك عن العلاقات المتبادلة بين الطرفين، بالتوقف عن النظر إلى الوراء».
إنما بالنظر إلى الأمام، نجد أن عدداً من دول البلقان، وكذلك إسبانيا واليونان وتشيكيا وإسبانيا، تضعف في مواجهة الإغراءات الصينية، و70 دولة في العالم انضمت إلى المشروع الذي يتغير اسمه ويبقى مضمونه حياً. فما أعلن عنه سنة 2013 استنهاضاً لطريق قديم بدائي عمره ألفا عام، ربط الشرق بالغرب، كانت تنقل عبره التوابل والحرير والخزف، صار شبكة أخطبوطية برية وبحرية يقبضون فيها على سكان الكوكب، بسكك حديدية ممتدة، وموانئ مفتوحة، وسفن تمخر عباب البحر، ناقلة أصغر التذكارات السياحية البسيطة، كما الكومبيوترات، وأدق المعدات التكنولوجية المتطورة.
ومن الظريف أن المعركة الأرضية التي تخوضها الصين، بهدوء منقطع النظير، لم تلهها عن غزو الفضاء والاهتمام بالقمر، وتطوير «5 جي» الذي يثير قلق الغرب كله، لما له من قدرة تجسسية خارقة، في حال تمكنت الصين من تسويقه في بلدان أوروبية.
كل شيء في الصين هائل وعملاق، من عدد السكان الذي يتجاوز المليار بكسور توازي عدد العرب مجتمعين، إلى المساحة التي تساوي قارة. وهي إن قررت فتح متاحف تحدثت عن مئات، وإن دشنت مقهى إنترنت فهو يتسع لسكان شارع في لبنان، وإن ازدادت مبيعات الكتب الكلاسيكية للأطفال كما حصل العام الماضي، فهي تبلغ 131 في المائة، مقارنة مع العام الذي سبقه. وإن حدثوك عن تحسن الناتج المحلي في منطقة التيبت، أخبروك أنه ارتفع 191 مرة منذ ستين سنة. هكذا تجد نفسك مع أرقام فلكية، وعالم له مفاتيحه التي لا تملكها.
مشروع «طريق الحرير» الذي تغير اسمه إلى «حزام واحد طريق واحد» ثم صار «الحزام والطريق»، «غامض» القسمات. ما نعرفه أننا أمام خطة استراتيجية ضخمة، تنهب الأرض وتمخر عباب البحار، بسرعة وفي كل اتجاه، باستثمار أكثر من 150 مليار دولار سنوياً، تنفق على بنى تحتية هائلة، تشكّل ممر عبور للبضائع الآتية من أضخم مصنع على وجه البسيطة. فمن الفولاذ وحده تنتج الصين مليار طن سنوياً، لا تستهلك منه سوى 800 مليون، ولك أن تحسب الباقي، لتعرف أن الصين ستكون مختلفة جذرياً عن كل ما عرفنا من إمبراطوريات غازية، بأنها لا تعبأ بمفهوم العداء الكلاسيكي، وليست مصابة بلوثة الديمقراطية، وغير مهمومة بحملات حقوق الإنسان. الصين آلة منتجة تلتقي مع مطالب المواطنين الجدد للكوكب، في أن العمل والمال والكسب على رأس كل الأولويات، والباقي يأتي لاحقاً.
قد لا تصدق أن الصينيين لا توجد في لغتهم كلمة «لا»، ولهم طرق كثيرة للتعبير عن عدم القبول إلا هذه اللفظة الأثيرة لدى شعوبنا. ومع أنهم يستخدمون كلمة «نعم»، غير أنها قد لا تعني الإيجاب، وقد يقصد بها «لا» أو معانٍ أخرى. وفي اللغة كما في الثقافة، للصينيين أسرارهم. وأصعب ما تعاني منه الدول التي تجد نفسها في مفاوضات معهم، هي صعوبة الحصول على إجابات محددة، أو الوصول إلى نتائج حاسمة بعد حوارات شاقة. وهذا ليس كذباً بالمعنى الشائع، بقدر ما هي مهارة في الإفلات من القيود التي توقع فيها الكلمات. فالألفاظ مجموعة من الفخاخ المنصوبة لصاحبها، وربما أن سرّ الصينيين، قدرتهم العجيبة على الإفلات من براثنها.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع