بقلم: سوسن الأبطح
آخر كل سنة يتذكر المصريون على عجل، شاعرهم الأثير وعبقريّهم الذي لم تنجب مصر فناناً يبدع ويدهش كيفما رسم أو كتب أو تحرك أو حتى أطلق نكتة، كما فعل صلاح جاهين. رحيله المبكر، لعله لفت أكثر إلى أهميته الاستثنائية. انتحاره، كما يؤكد أصدقاؤه، يضيف المزيد من الدرامية على هذه الشخصية النبيهة والقديرة، ومهارته رغم إصابته بكآبة شبه مزمنة على رسم أطرف المواقف الكاريكاتيرية طوال سنوات مديدة، وكتابة أكثر الأفلام مرحاً وحبوراً، وأداء أدوار تمثيلة فكهة.
لم يُعرف صلاح جاهين عربياً كما ينبغي، مصريته ظلمته، التصاقه بالأرض بقدر ما كان سبب نبوغه وأصالته، حجب بعده العربي الكامن عميقاً في كل أعماله. إصراره على أن يكون واحداً من الشعب رغم أرستقراطيته كان سرّ تمكنه من كل ما يفعل. أحبّ حتى صار لسان الناس وحالهم. وتأمل حوله حتى ذاب فيما يرى ويسمع ويتنفس.
من الصعب حقاً أن تعثر في هذا الزمن الذي تنتفخ فيه النفوس تبجحاً، على فنان من صنف جاهين، فريد في خامته، ومذهل في تواضعه الجمّ، وإحساسه بضرورة تجويد ما يقدّم، وكأنه في حالة تقصير دائم.
كلما بحثت أكثر أدركت أن جاهين كان ينبض فناً. ليس الابتكار هو مما كان يسعى إليه، بل هو من كينونته وجزء من طينته الأولى. كان صغيراً يقطف أكواز الذرة الغضة ويصنع منها الكراسي والأسرّة للعب وبعض الإكسسوارات ليهديها لوالدته كما يفعل الأطفال، لكن ببراعة المتقن. كتب شعراً عمودياً ونسي أغلبه ولم يعره اهتماماً، هكذا هم الكبار لا ينتبهون لما يفعلون. ذهب للتمثيل في المسرح فوجد نفسه يغني أيضاً. توجه ليعمل في الصحافة محرراً، فوجد نفسه في أوقات الفراغ يرسم ليتسلى وينفث كربه، فإذا برئيسه أحمد بهاء الدين يرى رسوماته صدفة على مكتبه، ويبهر بها ويقرر أن يخصص له صفحتين أسبوعيتين للكاريكاتير، إلى أن أصبح رسام «الأهرام» الذي ينتظره الناس كل صباح. ومع ذلك يعتقد أنه دخل عالم الكاريكاتير لأنه ينجز عمله في اللحظات الأخيرة، ومن باب العجز عن الدقة والإتقان. رسم ببساطته وعفويته الخلابة، وكأنه يقدم لقارئه مشاهد مسرحية تضج بالناس والحركة والقصص والنقد اللاذع. هكذا لم تكن ثمة هوة بين الفنون عند جاهين. هو ذاك الطفل الدائم الحركة وما يصدر عنه يشبهه بصدق ودون تجميل أو توضيب مسبق. ولم يكن أوبريت العرائس الشهير والبديع «الليلة الكبيرة» إلا من باب تجاربه الكثيرة. ولا نعلم ما كان بمقدوره أن يقدم، لو أتيحت له فرص أكبر. فالرجل يتحدث عن مشاريع لم يعد يتذكر الكثير منها، لكنها بقيت طي أوراقه أو أفكاره؛ لأن الظرف لم يسعفه في إخراجها إلى النور. أنت حين تقرأ صلاح جاهين، أو تفتش عن مساره، تسأل نفسك، ما الذي لم يفعله هذا الطفل الشقي؟ وكيف له أن يفتن في كل ميدان خاضه، وكأنه ينضح فناً هو ذاته. كتب للتلفزيون فأبدع، جرّب حظه في سيناريوهات الأفلام تحت ضغط صديقته سندريلا الشاشة سعاد حسني، فجاء «خلي بالك من زوزو» تحفة مشهدية وفنية، وبقي يُعرض أكثر من خمسين أسبوعاً، وصار واحداً من الأفلام الخالدة في السينما المصرية. أنتج «أميرة حبي أنا» و«عودة الابن الضال» فلم يكن أقل نجاحاً. هذا فنان يصلح لكل مهمة. الأمر الوحيد الذي لم يجرؤ عليه هو الإخراج، ولولا حسّ عالّ بالمسؤولية لكان ربما خاض التجربة، وأكمل كما ربان سفينة لا يتهيب ريحاً، ولا يتخوف موجاً عاتياً.
يشبه المغامرين السندباديين جاهين، دون أي شعور بالبطولة. هو مجرد مبحر، يتغلب على سوداويته بالعمل، ويمضي الأيام الصعبة كما يتفق. يقول إن أفضل ما حصل له، هو أنه التقى بالأشخاص المناسبين في الوقت المناسب وهذا صحيح. فهو غالباً ما كان يمارس ما يحلو له، ويجد دائماً على زاوية الدرب، من ينتظره، لينقله إلى مكان آخر. هكذا حصل مع شعره العامي، وأزجاله ورباعياته التي ستدخله الشهرة من أوسع أبوابها. بدأ أيام الملكية لم يكن يريد شيئاً. فقط كان يكتب للفلاحين المعذبين «إيللي قاعدين عالمصاطب» لتحريضهم على المطالبة بحقوقهم. لكن اسم جاهين سيصبح أكثر شهرة مع العدوان الثلاثي على مصر. فهذا اليساري العروبي العاشق لعبد الناصر حارب على طريقته أثناء الحرب على بلاده، وأغنيته التي صدحت بها أم كلثوم «والله زمان يا سلاحي» ستصبح درة الأغاني الوطنية العربية التي تردد في كل مناسبة، في زمن الكفاح المسلح.
يتفق الجميع على أن لا شيء من كل ما ترك لنا عبقري مصر وفيلسوفها الشعبي صلاح جاهين، يفوق أهمية رباعياته التي أودعها نبض قلبه، وحركة الشارع في مصر، وضمير الناس. في أربعة أبيات فقط كان جاهين يقول ما لا تقوى عليه خطب الساسة الطوال، لينهيها دائماً بكلمته الشهيرة «عجبي». ومن ألطف ما قاله أنه كتبها ليغيظ بها عمر الخيام، ويقارع رباعياته المتجهمة بأخرى مليئة بالطرافة والحيوية. وقد نجح بامتياز، وعرف وهو يتحول إلى «بست سيلر» في غضون أيام على إطلاق كتابه، أنه التلميذ الذي فاق أستاذه. جاهين أبدع لكل الأعمار والطبقات والأمزجة. فنان الشعب، فيلسوف البساطة، ووصفة مضادة للسطحية واليأس والعنجهية. صوت الحرية التي قارعت الرقابة دون كلل، والدماثة المسيجة بالجدية. هو كذلك الحداثة بمعناها الأصيل والأمين لجذورها وتربتها وخصيب ثمارها، ومع ذلك لم يُعط حقه، ولم يُوف النصيب من الاهتمام الذي يستحقه. «عجبي»!