بقلم : سوسن الأبطح
ليست مصادفة أن يحفل الأسبوع الماضي بقضايا يتمفصل فيها الفن مع السياسة وتثير الكثير من الصخب والغضب والأخذ والرد. وهي علامات يقظة، وعودة عن نظرية الإبداع المجاني المنقطع عن محيطه. فمنذ اعتبرت الروايات تهويمات، والمسلسلات مجرد خيال يسبح في فضاء منقطع، والرسم «خرابيش» يفسرها المتفرجون كل تبع هواه، شعر الفنانون بأنهم في حل من التزاماتهم الإنسانية، وواجباتهم كنخبة مؤثرة في محيطها.
لم يعجب البعض أن تنال المخرجة اللبنانية نادين لبكي جائزة في مهرجان كان السينمائي، مع أنها من أكثر المخرجين اللبنانيين شفافية وإنسانية ونبلاً. لبكي تستحق تكريماً دولياً، لأنها تحرك أبطالها بوجدانها، وتصور أفلامها بكاميرا فائقة الحساسية، وبعمق وطني قلّ نظيره. وما زادتها الانتقادات إلا سحراً. فهذه المخرجة التي أصبحت أماً في ظروف يبدو فيها لبنان سابحاً على نفايات، غارقاً في فقر، مجهداً بلاجئيه جعلها تلتفت إلى الفئات الأضعف والأكثر تهميشاً. لم تكن الهجمة موفقة على لبكي، لأنها من بين القلة التي لم تتخل عن قناعاتها ومبادئها. إنما ما أن هدأت عاصفة لبكي، واتهامها بمحاباة الغرب، حتى جاء خبر مقابلة أجراها مخرج لبناني آخر هو زياد دويري الذي أثار الغضب سابقاً بتصويره أحد أفلامه في إسرائيل مخالفاً بذلك القانون اللبناني، ومع ذلك لم يعاقب ولم يحكم، وأخلي سبيله. دويري أنكر إجراءه المقابلة التي نشرتها «يديعوت أحرونوت» أو أنه خصّها بها، ومحتواها رديء ومشين يصف فيها «البيت الداخلي العربي بأنه قذر» وتقول إن «الفلسطينيين ارتكبوا مجازر كثيرة لا يتكلم عنها أحد» وهذا غريب. قد تكون المقابلة انتزعت منه في نيويورك دون علمه بهوية الصحافي، أو لعل ملابسات أخرى شابت هذا الحديث الذي لا يسر عربي. يبقى أن دويري لعب بالنار قبل المقابلة، وما يتعرض له سواء كان دسيسة أو حقيقة كان بمقدوره أن يتجنبه، طالما أنه متعلق كمواطن بجنسيته اللبنانية، مصرّ على أنه ينتمي إلى البلد الذي ولد فيه، ويريد لأفلامه أن تكون من وحي بيئته الأم، ولا يحسب نفسه، فنياً على الأقل فرنسياً ولا أوروبياً.
وليس بعيداً عن إسرائيل ومشاكل التطبيع، وما على النخب أن تفعل أو تتجنب جاء خبر إلغاء شاكيرا حفلها في تل أبيب تلبية لدعوات وجهت إليها من شخصيات دولية بينهم ناتالي بورتمان وجيلبرتو جيل، ومنظمات فلسطينية وناشطين حول العالم. والمقاطعة الثقافية لإسرائيل التي تنشط بتصاعد في الغرب وأميركا اللاتينية، لا تأتي مصادفة وإن كانت تأخذ زخماً جديداً من القمع الإسرائيلي المتمادي في غزة، إلا أنها دلالة على عودة النبض إلى ما كان قد دعا إليه مفكرون وكتاب على رأسهم الفيلسوف الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي الذي كان يعتبر أن لا فرق بين الإنسان وتلك الأشياء التي ينتجها، بل هما وحدة متكاملة. وقد سجن غرامشي عشر سنوات في معتقلات الفاشية الإيطالية، ومات في ريعان الشباب بعد خروجه، وكان له تأثيره العميق في جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن فلسفته ما أن تخبو حتى تستعيد ألقها بعد الأزمات والمحن السوداوية التي تعصف بالعالم. وكتاب إدوارد سعيد «صور المثقف» الذي ترجم إلى العربية مطلع القرن كان بمثابة إعادة إحياء لهذا الفكر النابع من الإحساس بما للكاتب من دور حيال مجتمعه، ما يتعرض له من هم حوله.
عودة دور المثقف كما هو مأمول، بالطبع ليست غداً، لكن المؤشرات تدّل على حاجة ملحة من الناس إلى بوصلة، بعد اختلال المقاييس ودخول جماعي في فوضى القيم.
وليست مصادفة أيضاً، في هذا الوقت بالذات، أن يتوافق عشرون محامياً وناشطاً لتقديم عريضة قضائية تطالب بوقف مسلسل في لبنان. هذه سابقة غير معتادة. فغالباً ما يتم الاحتجاج والمطالبة بالحظر في بلاد الأرز من دائرة الرقابة في الأمن العام، بناء على شكوى دينية أو حزبية. هذه المرة الشعب يعترض. لم يقنع الكلام الذي يتصدر شاشات التلفزيون كل يوم مؤكداً أن ما يراه المتفرج في مسلسل «الهيبة - العودة» معزول ومن صنع الخيال ولا علاقة له بالواقع. فكل أسماء المناطق والمستشفيات والقرائن تشير بوضوح إلى أن «الهيبة» ليست قرية وهمية، بل هي لبنانية وعلى الحدود السورية، وما يجري فيها يحيل إلى معاش يعرفه الناس.
لعل المزاج الشعبي يتغير بسرعة. تقبّل المتفرجون البقاعيون، في رمضان الماضي، أن يصور بعضهم على أنهم مجموعات مسلحة خارجة على القانون تتاجر بالحشيش والأسلحة، مع بعض اللمسات الإنسانية، لنرى من ينتفض هذه السنة، على من يقدم بعضاً منهم على أنهم عصابات بلا رادع، تعيش على الثأر والقتل والممنوعات. هذه المطالبة قد تمتد لتطال كتاب سيناريو آخرين، آمنوا لفترة طويلة بأن الفن ليس رسالة، والتمثيل تجارة، والتلفزيون تمضية وقت.
من نادين إلى زياد وشاكيرا و«الهيبة» كان النقاش محتدماً طوال الأيام الفائتة حول موضوع يكاد يكون واحداً، على اختلاف الزوايا التي ينظر منها كل فريق إلى قضيته وقصته. وهو أن الفنون ولو كانت غناءً أو فيلماً أو مسلسلاً، ما عاد يمكنها أن تبقى في حلّ من إنسانيتها، ولا بمقدورها أن تنفض يدها من وجع الناس وآلامهم بحجة التحليق وإطلاق العنان لحرية الخيال.
نقلًا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع