بقلم : سوسن الأبطح
بعد نظامي تشغيل «أبل» و«أندرويد» الأميركيين اللذين استفردا بهواتف البشرية المحمولة، ينتظر أن تشهد الأسواق نظاماً ثالثاً صينياً هذه المرة بدءاً من الخريف المقبل هو «هونغ مينغ». أن يكون الاسم صعباً فهذه ليست المشكلة، فبمقدور الصينيين أن يغيروا ما شاءوا من الأسماء، لكن الحقيقة المُرة التي تتحسب لها «غوغل» هو أن يكتسح هذا النظام الذي تطوره «هواوي» العملاقة، ويُكتب له النجاح، ويكون فاتحة تحول عالمي يصعب لجمه.
لغاية الساعة تمكنت أميركا من التحكم بالشبكة العنكبوتية ومنتجاتها من التطبيقات، لكن شركة «غوغل» بدأت تدق ناقوس الخطر منبهة إلى أن الحرب التي يقودها الرئيس الأميركي ترمب ضد «هواوي» ومنعها من استخدام نظام «أندرويد» أو تطبيقات مثل «فيسبوك» و«واتساب» و«ماسنجر» دخلت في مرحلة حرجة، وستدفع بـ«هواوي»، بدل لجمها وتأخير تطورها، إلى تسريع خطاها صوب استقلالية كاملة عن المنتجات الأميركية التي تعتمدها بشكل كبير. وهذا سيتسبب بخسارة مالية أميركية من جهة، وبفقدان السيطرة على المعلومات من جهة أخرى، وهذا هو الأهم.
وما تطوره «هواوي» ليس فقط هاتفها الذي باعت منه العام الماضي 200 مليون جوال، وإنما بالإمكان إضافة إلى نظام التشغيل الذي دخل حيز التجريب الجدي، تكنولوجيا الجيل الخامس التي لا غنى عنها، والصين فيها تسبق العالم أجمع بأشواط. الشركة التي تشغّل 180 ألف موظف في سبيل الانتصار، يعمل لها 80 ألف باحث، وتستثمر أربعة مليارات دولار كل سنة، وهو ما لم يُعطَ لغيرها. والحرب على أشدها بين العملاقين الأميركي والصيني لأن من يربح معركة الجيل الخامس وحدها، ويصبح سيد هذه التكنولوجيا في العالم، سيفوز أقله بثلاثة ملايين وظيفة وأكثر من 500 مليار دولار، هذا عدا ما يستتبعها من تكنولوجيات أخرى. فالحديث عن الجيل الخامس، يعني مواصلات مسيّرة، وعمليات جراحية عن بُعد، وخطط عسكرية دون جنود، ومنازل ذكية، وإنترنت أسرع 20 مرة مما هو عليه اليوم. كل هذا يمكنه أن يقلب شكل الحياة على سطح المعمورة.
الحرب الحمائية التي تقودها أميركا لخفض عجزها التجاري، من المكسيك إلى كندا ومن ثم اليابان وكوريا الجنوبية دون أن تعفي الاتحاد الأوروبي، في كفة وحربها مع بلاد التنانين في كفة وحدها. لا شيء إلا لأن المنافسة هنا تكنولوجية ومن يقبض على أسرارها وشبكاتها هو من سيتحكم بالعالم. ومن المفارقات أن أرباب العولمة في أميركا باتوا هم الذين يضربون عرض الحائط بقوانين منظمة التجارة العالمية، فيما أصبحت بكين المحكومة من «الحزب الشيوعي» تذهب لتحتمي بها وتدافع عن سياسة الأسواق المفتوحة والحدود المشرعة، مع أنها احتاجت إلى 16 عاماً من المفاوضات الماراثونية لتقبل بهذه العضوية وما استتبعها من تكيف مع نظامها الاقتصادي. لكن الصين استفادت، بعد جهد قانوني كبير، من منظمة التجارة المتهمة باستغلال مساكين العالم، كما لم يفعل أحد، وقفزت وارداتها خمس مرات أكثر من ذي قبل.
ولعل مشكلة العالم والأميركيين تحديداً، مع الصينيين، هي أن لهؤلاء ذهنيتهم الخاصة، واستراتيجياتهم، وخلفياتهم الثقافية، التي تجعل الآخرين غير قادرين على التنبؤ بردّات فعلهم. فكلما بدا أنهم حوصروا في مكان وجدوا ثغرة للنفاذ منها، من مخرج غير متوقع. وإذا أضفت إلى ذلك عددهم الهائل الذي يشكل ما يقارب خُمس سكان الأرض، وسوقهم التي تفتح شهية المصدرين، وارتفاع المداخيل والقدرة الشرائية لديهم، في السنوات الأخيرة، أدركت كم أن هذه الكتلة البشرية العاملة كخلية نحل لا تتعب يمكنها أن تزن في السنوات القليلة المقبلة. فالصين اشتراكية منغلقة في الداخل بقدر ما هي ليبرالية مع الخارج، تدافع عن حقها في استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي من «فيسبوك» إلى «تويتر» و«ماسنجر» على هواتفها، فيما لا تسمح للصينيين باستخدام أي منها، وتقصر استعمالهم على تطبيقات خاصة بها أضخمها «وي تشات» الذي هو بخدماته الشاملة والفعالة، أكثر تطوراً من كل التطبيقات الأميركية الأخرى. وقد لا تكون المعارك الاستنزافية التي يقودها الرئيس الأميركي ترمب مع الصين، أمنية بالدرجة الأولى وإنما تجارية بشكل أكبر، لكن مهارة الصينيين في التجسس حتى قبل «الجيل الخامس» وبأكثر الطرق بدائية، هي من الشهرة بحيث إنها كانت مواضيع مشوقة لكتب غربية شهيرة. وكان الصينيون القدماء، يعتقدون أن تعليم لغتهم لغرباء هو نوع من الانكشاف أمام العدو، قبل أن تفتح معاهد «كونفوشيوس» أبوابها لملايين التلاميذ حول العالم. لكن بمقدورك أن تتعلم لغة «الماندرين» على صعوبتها، لكنك تحتاج إلى وقت أطول بكثير كي تفهم كيف يفكر الصيني، أو ما السبيل المثلى للتعامل معه.
المعركة الحالية بين أميركا والصين تجارية كما هو معلن، لكنْ لأميركا عجز تجاري مع دول كثيرة جداً لا تعاملها بالطريقة عينها. الصين على استعداد للتنازل مالياً وخفض العجز للولايات المتحدة، لكنها لن تقبل أبداً بحد طموحها، وهذا ما يعيق المفاوضات التي تنتهي بفشل في كل مرة. قد يصل الطرفان إلى هدنة، إنما الحرب الباردة ستبقى مستمرة، والصين مصرة على بناء سور تكنولوجي عظيم في الفضاء الكوني، يوازي السكك الحديدية التي تغزو بها الأرض. أميركا تعرف أن الفوز بالسباق لم يعد ممكناً، وإن لم تعلنها جهراً، لهذا فإن أقصى ما تستطيعه هو فرملة سرعة التنين الماضي بجموح شرس نحو المستقبل.