بقلم : سوسن الأبطح
دعوة كريس هيوز، شريك مارك زوكربيرج السابق، لتفكيك شركة «فيسبوك» وتقليص سطوة صاحبها، قد تبدو، للوهلة الأولى، فعل حسد، أو عداوة كار، لكنها لا تأتى من فراغ. يُتهم الرجل بأنه بات يقبض على سلطة أخطبوطية عالمية، لم تجتمع لإنسان قبله. حالة استثنائية ولّدتها ثورة تكنولوجية، انتهزها زوكربيرج، ليبزّ كل قادة المنصات العملاقة نفوذاً، حين استحوذ إلى جانب «فيسبوك» (يستخدمه أكثر من مليارين ونصف مليار شخص كل شهر)، على «واتساب» و«ماسينجر» و«إنستجرام». وهى جميعها من نجوم التطبيقات، التي يستخدم كل منها ما سيقارب المليار، في غضون فترة قصيرة جداً.
دُعى زوكربيرج رسمياً، إلى الإليزيه. اجتمع به سيد القصر ماكرون، يحيط به مستشاروه، كما يفعل عند لقاء رؤساء الجمهوريات، فاوضه كما يليق بصاحب سلطة ومكانة. العام الماضى كان صاحب «فيسبوك» قد أدلى بشهادته في الكونجرس، كما كبار المسؤولين الأمريكيين.
الشاب الثلاثينى يمتلك ميزانية دولة، ويحقق نمواً سنوياً لإمبراطوريته أسرع من الصين والهند، ويقبض على حسابات وبيانات لأكثر من ثلث سكان المعمورة. لذلك؛ فحين يجتمع برئيس يكون الحوار معه من الند للند. كاد النزق يطيح بزوكربيرج. بمرور الوقت اكتسب الشاب هدوءاً ودبلوماسية عاليين. الذين اطلعوا على اجتماع الإليزيه قالوا إنه يصغى بتمعن، ويجيب بحذر، يزن كلماته جيداً، ويظهر تواضعاً جماً، وهو مستعد للتعاون، لكنه يطالب الدول التي تتهمه بالتقصير بأن تقوم بواجبها التشريعى أولاً، وتصدر القوانين التي تنظم استخدام الإنترنت لمواطنيها، كى يعرف أين تبدأ مهماته وأين تنتهى. فهو وحده ليس بقادر على القيام بكل المهمات.
بات معروفاً أن شركة «فيسبوك» متهمة بانتهاك الخصوصية، وتسريب بيانات المستخدمين، كما التقصير في مكافحة المحتوى الذي يحض على الكراهية والتطرف الشديد، والتأثير في نتائج انتخابات. وفرنسا التي تحب دور القيادة، يريد رئيسها ماكرون أن تكون رائدة في وضع قوانين تصالح بين حماية حقوق المواطنين وحرية التعبير على وسائل التواصل، بحيث تحتذيها أوروبا والعالم. يريد لبلاده أن تكون هي من ترسم الرؤية لإرساء اقتصاد جديد مقونن. اقترح على زوكربيرج تشريعاً يتيح لمنصته أن تتخلص من المحتوى الذي يحض على الكراهية خلال 24 ساعة وإلا دفعت غرامات باهظة. مارك الخبير باللعب على المحتوى كان جوابه حاضراً. بالإمكان ترك المحتوى وجعل تأثيره طفيفاً جداً، داعياً إلى التمييز بين ما سماه «المدة» و«الأثر». أي بمقدورك أن تنشر ما تشاء، ويبقى موجوداً، لكنه لا يرى ولا ينتقل إلا قليلاً. نعم، بمقدور «فيسبوك» الذي يصرف 22 مليار دولار سنوياً، على أبحاث تطوير الذكاء الصناعى- أي خمسة أضعاف ميزانية «مركز الأبحاث الوطنى الفرنسى»- أن يفعل بما ننشره ما يحلو له. برامجه الذكية، بإمكانها أن تروّج لفكرتك وتجعلها تلمع كالذهب أو تخنقها وتتركها تموت في المهد، وأنت تظنها مشرعة على العالم.
بمعنى آخر، تقليم أظافر أصحاب المنصات العملاقة، وعلى رأسهم زوكربيرج ليس موعده غداً. التقرير الفرنسى الجديد يقترح إنشاء سلطة إدارية مستقلة في كل بلد أوروبى، تشرف على مدى التزام شبكات التواصل بالقوانين وتشذيب المحتوى وتقليمه. المفاوضات على أشدها في أمريكا أيضاً، بين «فيسبوك» وهيئة التجارة الفيدرالية لإنشاء لجنة مستقلة لمراقبة الخصوصية. ليس ذلك فحسب، بل قد يُعيَّن مسؤول من الحكومة الفيدرالية في «فيسبوك»، وربما يشارك مسؤولون حكوميون في مجلس إدارة الشركة نفسه، لضبط تفلت قد يزداد خطره.
يبقى السؤال الأهم الذي لم يجب عنه أحد لغاية اللحظة، من يحدد وبموضوعية، ما يستحق النشر، وما يجب أن يخضع للحجب المهذب الذي تمارسه آليا برامج الذكاء الصناعى؟ ومن يضمن ألا تنزلق هذه الرقابات الحكومية، لتحول المنصات الاجتماعية إلى مكان للتجسس أو لغسل الأدمغة؟ وهل يمكن حقاً لهيئة مهما علا شأنها ومهاراتها التكنولوجية- والدول لا تزال أقل كفاءة تقنياً من الشركات- أن تتابع وتحكم على مدى شفافية الشركة أو تلاعبها؟
يبدو الأمر سوريالياً جداً، لكن اللعبة لا تزال في أولها، وشد الحبال بين السلطات الحكومية التقليدية، والإمبراطوريات التكنولوجية الوليدة، سيستغرق عقوداً، لإعادة توزيع الأدوار، وتنظيم المهمات.
وإذا كان هيوز قد اقترح تقسم «فيسبوك» إلى 3 شركات، فإن جواب زوكربيرج، أن عليكم أن تكونوا أذكى من ذلك، وبدلاً من أن تفتتوا الموجود بحجة الحفاظ على الديمقراطية، اعملوا على تطوير تشريعاتكم ووظفوها لصالحكم. تبقى مشكلة الاحتكار بعد أن بدأ زوكربيرج يستحوذ على كل شركة ناجحة ويضعها في جيبه ليستريح. إذن، من هو المستثمر اليوم، الذي سيجازف بشراء وتطوير شركة يعرف مسبقاً أنها لا تستطيع الوقوف في وجه أربع منصات تمسك مواطنى العالم من الموضع الأكثر حساسية، من أمزجتهم؟
* أستاذة في «الجامعة اللبنانيّة»، قسم «اللغة العربيّة وآدابها»، صحافيّة وكاتبة في جريدة «الشّرق الأوسط