بقلم: سوسن الأبطح
إذا صدّقنا تقرير «اليونيسكو» الأخير حول الخسائر الفادحة التي تلقاها القطاع الثقافي في العالم، فستكون البلدان العربية من بين الأكثر تضرراً، بسبب صعوبات تعويض خسائرها، في ظل الاضطرابات التي تعصف بها. ومن بين المنغصات، غياب التقديرات الدقيقة للاقتصاد الثقافي في المنطقة. فمن يعرف مثلاً كم كانت أرباح دور النشر في لبنان، أو مداخيل الفيديو كليبات، أو صناعة الأفلام؟ وما كان انعكاس المهرجانات على الحركة السياحية؟ أو ما تأثيرات إلغاء معارض الكتب العربية، على كل بلد؟ أرباح غير منظورة اختفت أو تكاد، لكنها تقدّر بالمليارات. هذا من دون أن نتحدث عن السياحة في مصر وما خسرته المتاحف من خمود حركة التنقّل، والأمر يقاس على المغرب وتونس ودبي. ومما تلفت إليه «اليونيسكو» ولا نعبأ به كثيراً، أن مواقع أثرية عربية عديدة، تعرضت للنهب خلال فترة الجائحة من دون رقيب، بسبب الفوضى أو تدني مستوى الحراسة والحماية.
وقد تكون الأرقام العالمية وسيلة لفهم الخسائر العربية التي تفتقد الرصد والإحصاء. في أميركا مثلاً 13 في المائة من المتاحف ستخرج من الخدمة بعد الجائحة، والأرقام مشابهة في أوروبا وأميركا اللاتينية. الغالبية الساحقة من متاحف العالم مغلقة منذ ما يقارب السنة، ومنها ما كان الزوار يؤمّنون استمراريته وصيانة محتوياته، وفقد قدرته على البقاء. هذا النوع الخاص هو الأكثر حضوراً في لبنان، ولن يجد من يسعفه. وكي تتضح الفكرة، فإن ما يقارب نصف الحركة السياحية للبشر هي ذات دوافع ثقافية ودينية، وتؤمّن على الأقل 29 مليون فرصة عمل. وإذا ما خفتت أو اختفت بعض المواقع التي تستحق الزيارة، فإن عدد السياح سينخفض تلقائياً، أو يتحولون إلى وجهات جديدة.
الاقتصاد كل مترابط، ويبدو أن عشرة ملايين وظيفة تبخرت من عالم السينما العام الماضي، بسبب إغلاق الصالات وشلل التصوير. وثلث المعارض الفنية خفضت موظفيها بمقدار النصف خلال الأزمة. وكلفة الإغلاق لمدة ستة أشهر على صناعة الموسيقى تصل إلى أكثر من 10 مليارات دولار، بينما من المتوقع أن تتقلص سوق النشر العالمية، بما يفوق السبعة في المائة، رغم كل الكلام الجميل عن العودة إلى القراءة. هذا يعطي فكرة تقريبية عما يعانيه الفنانون العرب، الذين هم في غالبية الدول لم يدعموا أو يساعدوا، باستثناء فتات معونات بعض الهيئات الدولية، والمؤسسات الغربية. لو نظرنا إلى الصين مثلاً، التي تصرف باعتدال شديد، نجدها ترصد لمؤسسات الثقافة في منطقة واحدة 65 مليون دولار، وسبعة ملايين أخرى للسينما فيها.
ولو لم تكن هذه الأموال ذات مردود أكيد لما صرفت. الخشية أن الدول لن تجد ما تدفعه السنة المقبلة. والتوجه في فرنسا على الأقل، من بعض المؤسسات والمتاحف المهددة بالإغلاق، لتشجيع الناس على التبرع ولو بمبالغ رمزية، لمساعدتها على النهوض من الكبوة. أما الهيئات المعنية بالتفكير في إنقاذ ما تبقى من إبداع وفنانين خلّاقين على الكوكب، فهؤلاء ينصحون بأمرين؛ أولهما التعاون بين المؤسسات الثقافية لابتكار الحلول وإيجاد مشاريع مشتركة، تبقي الإنتاج مستمراً وتخفض الكلفة إلى النصف. أما الأمر الثاني الذي يوصون به فهو العمل على جعل الرقمية جزءاً من يوميات الجميع. وهو ما ليس بحاصل حتى اللحظة. فالتشبيك بين الناس على الإنترنت صار أحد مقومات الوجود الرئيسية، التي ستجعل من الثقافة الرقمية أحد منافذ الوصول إلى مداخيل جديدة، وإيجاد وظائف بديلة، ومتع إضافية.
كل هذا يحتاج إلى وقت. التعويل الآن على الحركة السريعة، والاستثمار العاجل. تمكنت بريطانيا قبل أيام، من تمويل الخدمات الصحية بـ23 مليون دولار، هي بأمس الحاجة إليها، بفضل لوحة واحدة بيعت بالمزاد العلني للفنان المجهول الهوية «بانكسي»، كان قد أهداها العام الماضي، لمستشفى جامعة «ساوثهامبتون»، تقديراً منه لجهود الجيش الأبيض. والمبلغ الذي استحقته اللوحة، هو أربعة أضعاف ما كان متوقعاً. فنان الغرافيتي الذائع الصيت، الغريب الأطوار «بانكسي» ليس الفنان الوحيد الذي ساهم في تخفيف آلام المعذبين رسماً وضخاً بالمداخيل، لكن ليسوا جميعهم بمهارة هذا الرسام الخفي ولا بعبقريته. آلاف الفنانين حول العالم انخرطوا بكل مهاراتهم إما لعزف الموسيقى، أو الغناء، أو عرض كتبهم بالمجان، وتقديم مسرحيات وأفلام للترفيه عن المحجورين دون مقابل، لعلمهم أن البقاء من دون جماليات، مظلم حتى الموت.
وبمقدور أصحاب المواهب الفنية أن يكونوا دعماً لبلادهم، وسبباً جوهرياً في ازدهار السياحة، إن هم شجعوا وسوعدوا وتمتعوا بجنون «بانكسي» أو أقل قليلاً. فكم من أديب صنع اسم بلده، وجلب السيّاح إلى أماكن عيش أبطاله كما نجيب محفوظ. وكم من فنان روّج لعاميته في أغنياته، وجعلها على كل لسان، كما فعلت فيروز، ومنهم من ألزم عشاقه، حفظ أغنية بغير لغتهم من دون أن يعرفوا معناها، كما فعل الشاب خالد. وقد يحجز أحدهم ليزور بلداً من أجل لوحة كما هي حال «الجوكوند» التي يخضع متحف اللوفر، وهو يحتضنها لأشغال في فترة الحجر في انتظار زواره.
وأقل ما نحتاج إليه اليوم لإعادة الجمال إلى يومياتنا، هو أن نعرف بالأرقام، ولو كانت تقريبية، خسائرنا، واحتياجاتنا، ونعيد الألق لمواقعنا الأثرية، والحيوية إلى متاحفنا، والأمل للخلاقين والمبتكرين. فالجائحة ستزول يوماً، بعد أن تحصد عشرات ملايين الأرواح، ويبقى للناجين حق التمتع بما تبقى لهم من أيام، وهذا لا يمكن أن يتحقق من دون صنّاع الجمال.